أحمد القديدي

الزلزال الذي هز كيان الاتحاد الأوروبي بالأزمة المالية الخانقة وما تلته من التوابع المتوقعة هي حالة الانشطار والاحتقان بين قطبي الاتحاد فرنسا وألمانيا حتى بعد إعلان منح 120 مليار يورو لليونان المفلسة منذ أسبوع واصطناع موقف متقارب بين الدول الأوروبية حول ضرورة إنقاذ أثينا من السقوط.
أعلن هذا الزلزال في الواقع عن تغيير عميق في حدود الانقسامات التقليدية بين يمين ويسار وبين حاكم ومواطن وبين بورجوازي وطبقة كادحة، ليصبح الانقسام الأكبر هو بين المناصرين للاتحاد الأوروبي وبين المناهضين لمبدأ الوحدة من خلال التهديد الصريح بمغادرة سفينة العملة الموحدة (اليورو) لعودة فرنسا للفرنك وألمانيا للمارك. فقد رأينا العجب العجاب في الحملات الانتخابية الرئاسية في باريس، حين اتفق أقصى اليمين المتمثل في زعيمته مارين لوبان مع أقصى اليسار المتمثل في زعيمه ميلونشون مع المرشح الديغولي اليساري جاك شوميناد على ضرورة الرجوع للعملة الفرنسية الفرنك وعدم تحمل أزمات الدول الأوروبية الهزيلة مثل اليونان والبرتغال وأسبانيا، كما رأينا كيف انفجر الحزبان الأكبر: حزب الأغلبية الرئاسية وهو الحزب الحاكم، والحزب الاشتراكي الذي يستعد لتسلم السلطة.. انفجر هذان التنظيمان من الداخل لينقسم كلاهما إلى شقين: شق دعا إلى القبول بالدستور الأوروبي وشق دعا إلى رفضه.
وأعلن فرنسوا هولند الأمين العام للحزب الاشتراكي ومرشحه للرئاسة بعد أيام أن الحزب سيعقد مؤتمرا استثنائيا لمحاولة تجاوز الأزمة.
أما الانشقاق الثاني فهو يتعلق باستعمال المهاجرين العرب والجاليات المسلمة كورقة سياسية للحصول على أصوات الناخبين. وقد تجاوز الرئيس الفرنسي المرشح لخلافة نفسه (نيكولا ساركوزي) كل الخطوط الأخلاقية الحمراء ليفتك من أقصى اليمين بعض ما لديه من (كتائب انتخابية تمثل 15% من الخارطة الانتخابية الفرنسية) فأعلن أن فرنسا غير نادمة على استعمار الجزائر وأنه لابد من التخفيف من دخول المهاجرين الشرعيين إلى بلاده بنسبة 50% هذا العام بعد أن تحمس لتقديم قانون يجرم كل شك فيما يعرف بإبادة الأرمن وهو ما رفضه المجلس الدستوري الفرنسي بشجاعة لأن التاريخ من مهمات المؤرخين وليس من مناورات السياسيين. ولم يدخل المرشح الاشتراكي هذه الحلبات الملغومة فظل على الأقل وفيا لمبادئ حزبه.
يتفق جميع المراقبين السياسيين على أن الرئيس الفرنسي والنخبة السياسية اليمينية الجمهورية في باريس لم تحسن استخلاص الدرس القاسي الذي أعطاه الشعب الفرنسي لزعاماته يوم 21 أبريل 2002 حين لم يحصل شيراك زعيم اليمين ومنافسه جوسبان زعيم اليسار آنذاك في الدور الأول للانتخابات الرئاسية إلا على نسبة 26% للاثنين مجتمعين في حين صعد جون ماري لوبان زعيم اليمين العنصري المتطرف (وهو والد الزعيمة الحالية لنفس الحزب مارين لوبان) إلى الدور الثاني للانتخابات وكاد يفوز برئاسة الدولة لولا هبة الشعب الفرنسي الحضارية في اللحظات الأخيرة أنقذت النظام الجمهوري من الانهيار الحقيقي الذي كان ينتظره حينها ، وبعد ذلك نجح شيراك في جمع أصوات الجمهوريين وأنصار دولة القانون والحق، ثم تجاهلت الطبقة السياسية اليمينية الفرنسية ذلك الإنذار الخطير وواصلت لعبة التحالفات اليمينية المتطرفة والشعارات العنصرية ضد المسلمين بمعزل عن الواقع أي بمعزل عن تخوفات الشعب الفرنسي من خطرين محدقين وهما : توسيع الاتحاد الأوروبي بلا ضوابط مما يحرم الفرنسيين مما اعتبروه واعتبره العالم معهم quot;النموذج الاجتماعي الفرنسيquot; أو مما يسمى اختصارا بالاستثناء الفرنسي ! والخطر الثاني هو انزلاق السياسات الأوروبية نحو دغدغة الغرائز العنصرية وإيقاظ الغول الفاشي النائم في أعماق الرأي العام الجاهل لأن التلويح بالبعبع العنصري والفزاعة بخطر أسلمة أوروبا تحريف للتاريخ وللحق تحت ذرائع انتخابية تهدد القيم الحضارية والسياسية التي تأسست عليها أوروبا وتعزل الاتحاد الأوروبي عن فضائه الجغراحضاري الذي يشمل العالم الإسلامي منذ 15 قرنا.