عبدالحميد الأنصاري

احتفل العالم أجمع بعيد الأم الذي صادف 21 مارس، وهو يوم عالمي تحتفل به شعوب الأرض سنوياً، تقديراً لمكانة الأم وعرفاناً بدورها العظيم في التنشئة والتربية والرعاية المستمرة، إنها نبع الحنان ومصدر الحب ورمز التضحية والعطاء.
في هذه المناسبة السعيدة يتسابق أطفال العالم في شراء الهدايا لتقديمها إلى أمهاتهم تعبيراً عن محبتهم وامتنانهم لها، هذا الكائن البديع المجبول على الرحمة والتفاني في العطاء، حظي بمكانة عالمية في الأديان السماوية والوضعية، وقد كان ديننا العظيم سباقاً إلى تقدير مكانة الأم السامية ودورها البناء في الحياة، ولا أدل من أنه جعل البر بها من أعظم القربات إلى الجنة.
وكان رسولنا عليه الصلاة والسلام خير نصير لها في تاريخنا الإسلامي، وتعاليمه ووصاياه بالمرأة وبالأم كثيرة، فالجنة تحت أقدام الأمهات، وما أكرمهن إلا كريم، وخيركم خيركم لأهله، وأنا ابن العواتك من سليم، وظل المصطفى مناصراً لها وحامياً عنها حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى وكان من آخر وصاياه: ألا فاستوصوا بالنساء خيراً.
مر عيد الأم على الأمهات قاطبة وهن سعيدات مبتهجات بمشاعر التقدير والتكريم إلا الأم العربية التي مازالت محرومة من حق طبيعي تتمتع به سائر الأمهات في العالم، مر هذا اليوم على الأم العربية وهي حزينة إذ ترى أولادها محرومين من منح جنسيتها لهم، لأن التشريعات العربية لا تسمح للأم بنقل جنسيتها لأطفالها وتقصر ذلك على الأب وحده ومن منطلق ذكوري بحت.
مازالت تشريعات الجنسية العربية تكيل بعدة مكاييل في التفرقة بين مواطنيها، وإذا استثنينا تشريعات دول عربية مثل تونس والجزائر والمغرب والعراق ودولة الإمارات العربية المتحدة فإن بقية تشريعات الجنسية العربية تفرق بين الأب والأم في حق نقل وتوريث الجنسية.
الأم العربية وحدها مازالت تعاني هذا الإجحاف التشريعي الذي لا مبرر له لا من الشريعة الإسلامية الغراء ولا من الدساتير العربية التي ساوت في حقوق المواطنة بين الجنسين، رغم أن الخليج أكبر منطقة منفتحة على العالم، وقد طورت كل تشريعاتها لتواكب التغيرات السياسية والاجتماعية والدولية، ورغم أن المرأة الخليجية شريكة فاعلة في خطط التنمية وقد وصلت إلى مناصب قيادية وتمارس كل حقوقها المشروعة فإن تشريعات الجنسية في الخليج بقيت محصنة أمام هذه التغيرات.
وإذا استثنينا دولة الإمارات التي منحت أبناء المواطنة من غير المواطن حق التجنيس حال بلوغهم سن الثامنة عشرة، وهو هدية اليوم الوطني الـ40 للأم المواطنة، فإن بقية التشريعات الخليجية مازالت مصممة على عدم منح الأم الخليجية هذا الحق إلا في حالات استثنائية مثل كون الأب مجهول الجنسية أو عديم الجنسية، أو منكراً للبنوة، أو أن يكون قد طلق الأم المواطنة طلاقاً بنائاً أو توفي، ففي مثل هذه الحالات تعترف قوانين الجنسية الخليجية بتبعية الأطفال لجنسية أمهم المواطنة فقط!
كثيرون من نشطاء حقوق الإنسان يتساءلون مستنكرين: لماذا هذه التفرقة الظالمة بين الأب والأم رغم أن الدساتير العربية قد سوت بينهما؟! شرّق أو غرّب وارتحل جنوباً وشمالاً وتزوج بمن تشاء من نساء الأرض، تزوج أميركية أو أوروبية أو إفريقية أو حتى آسيوية من أفقر الدول وأكثرها تخلفاً، وهي تمنحكndash; إذا أحببتndash; أنت وأولادك جنسيتها من غير عناء، إلا الأم العربية التي كتب عليها أن تعاني في صمت وألم، وهي قلقة على مصير أولادها من أبيهم غير المواطن!
ترى هل هناك أي مبرر لهذا العور التشريعي؟! وهل هناك أي منطق لهذا الوضع التشريعي الشاذ بين كل تشريعات الأرض؟! الغريب أن ادعاءاتنا عريضة لكن أوضاعنا تكذبها، نتباهى بتكريم الإسلام للمرأة ونتغنى بتعظيم الإسلام لمكانة الأم، ولكننا في نفس الوقت نمارس ظلماً وتمييزاً صارخاً ضدها دون أي إحساس أو حتى خجل من تناقض أقوالنا مع ممارساتنا!
دولنا العربية كافة وقعت وتعهدت أمام المجتمع الدولي والمنظمات الحقوقية بأنها ملتزمة بمبدأ المساواة بين الجنسين، وأنها معنية بالقضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة، وهي سنوياً تقدم تقاريرها بأوضاع حقوق الإنسان في مجتمعاتها للمنظمات الدولية وتحاول فيها تجميل صورتها أمام المحفل الدولي، ومع ذلك لا تطور تشريعاتها لتكون أكثر إنسانية، ولا تتصالح مع روح العصر ومبادئ حقوق الإنسان.
ترى ما مبررات هذا الوضع التمييزي الظالم ضد الأم العربية؟
1- هناك من الشرعيين من يبرر الوضع بالتمسح بالدين والدين منه براء، فيقول: إن الرجل هو القوّام على الأسرة، وإليه ينسب الأولاد فمن حقه منح الجنسية لأولاده دون الأم، لكنه مبرر ساقط لأن النسب حكم شرعي ثابت بالقرآن الكريم، وأما الجنسية فهي رابطة قانونية سياسية بين الفرد والدولة فلا علاقة بينهما، كما لا يتعارض حق الأم في نقل الجنسية مع حق النسب الثابت شرعاً.
2- وهناك من القانونيين من يحتمي بمعايير الدم، فيقول: إن تشريعات الجنسية قائمة على معيار الدم وهو للأب وحده! وهذا مبرر سخيف لا يصمد أمام معطيات العلم والطب التي تجعل للأم دوراً أعظم في معيار الدم! فلماذا تحرم الأم مع أن لها دوراً موازياً أو أكبر؟ ولماذا لا تكون تشريعاتنا كتشريعات العالم المتحضر التي اعتمدت معيار الدم وجعلته حقاً سواء للأب أو الأم.
3- وهناك من يتذرع بالمبرر الأمني، والخشية على التركيبة السكانية، لكنهما مبرران واهيان لأن العكس هو الصحيح.
فأولاً: المبرر الأمني يلزم الدولة والمجتمع بالإنصاف والعدالة، إذ لا يستقيم حرمان أبناء المواطنة من الجنسية بينما يتمتع أبناء المواطنة الأخرى بها لمجرد اختلاف جنسيات الآباء! ألا يخلق ذلك في نفوس الأطفال المحرومين من جنسية وطنهم ردات فعل غير حميدة؟! ألا يزرع في نفوسهم مشاعر التمرد والسخط على المجتمع والنظام؟! ألا يعد ذلك من مهددات الأمن الداخلي؟!
وثانياً: إصلاح خلل التركيبة السكانية يتطلب السعي إلى تجنيس أبناء الأم الخليجية لأن هؤلاء رضعوا الولاء والانتماء من أمهم، ولا يعرفون وطناً آخر غير هذا الوطن الذي ولدوا فيه ونشؤوا وتربوا وتعلموا وخدموا فيه، فهم الرافد الأثمن لتعزيز الهوية الخليجية وتعديل التركيبة السكانية في هذا المحيط المتلاطم من البشر المختلفين في الثقافات، هؤلاء تشربوا الموروث الثقافي الخليجي وامتصوه عبر أمهاتهم، فلا مخاوف من تجنيسهم بل المصلحة العليا الخليجية تتطلب ضمهم وإدماجهم إسوة بإخوانهم المواطنين.
إن الخليج اليوم بفضل ما أنعم الله تعالى عليه من نعم ظاهرة وباطنة يغزوه طوفان بشري، ولا عاصم للأقلية الخليجية إلا بتجنيس أبناء الأم الخليجية، وتعديل التشريع ليتساوى الأب والأم في حقوق نقل الجنسية للأولاد، إن التثبت بالموروث الثقافي الذي يعلي من شأن الذكر على الأنثى أصبح عاملاً معوقاً للتنمية والتقدم في عالم سقطت فيه كل الحواجز العنصرية والجغرافية، بل أصبح مدعاة للنقد والمؤاخذة من قبل منظمات المجتمع الدولي في تقاريرها السنوية.
آن للمجتمع الخليجي الذي يقود حركات التحرير والربيع العربي أن يتجاوز الموروث الاجتماعي المعوق إلى آفاق الإنسانية الرحبة وبخاصة أن الخليجية أصبحت اليوم وزيرة وقاضية وشريكة في بناء المجتمع وإدارته.