سليمان جودة


مساء الثلاثاء الماضي، كان عمرو موسى، مرشح الرئاسة في مصر، قد وقف في عزبة الهجانة، إحدى مناطق شرق القاهرة الفقيرة، ليعلن منها برنامجه للناخبين، إذا فاز، وأصبح رئيسا..

كان وهو يخطب في الحاضرين، في العزبة إياها، قد أمسك البرنامج مطبوعا في يساره، وراح يلوِّح به، بينما كان الميكروفون في يمينه يشرح به، ويوضح من خلاله، ويضيف، لعل الرسالة التي أرادها من وراء البرنامج تصل!

قبلها بثلاثة أيام، كنت قد تلقيت منه نسخة من البرنامج الذي يقع في 80 صفحة من القطع الكبير، ويحمل العنوان التالي: laquo;إعادة بناء مصرraquo;.. وتحت هذا العنوان، عنوان آخر بخط أصغر هو: رؤيتي للجمهورية الثانية.

وبصرف النظر عما يتعهد الرجل بأن يحققه، خلال المائة يوم الأولى من عهده، ابتداء من إعادة الأمن كاملا للشارع المصري، ومرورا بإلغاء حالة الطوارئ، ووصولا إلى الانتصار لشهداء ثورة 25 يناير، فإن عنوان البرنامج، في حد ذاته، يستحق أن نتوقف عنده مرتين.

مرة لأن العنوان الرئيسي يقول: إعادة بناء مصر.. وهذا معناه، أن موسى يؤمن بأن الكلام عن إصلاح جزئي لأحوال هنا، في مصر، ثم إصلاح أحوال من النوع نفسه هناك، لم يعد مجديا، لأن الأمور كلها، في حاجة حقيقية إلى laquo;إعادة بناءraquo; من جديد، فليس هناك حجر على أرض البلد، والحال كذلك، إلا وتختبئ وراءه مشكلة تبحث عن حل، ولذلك، فالإصلاح، ككلمة، لا يفي بالغرض، أمام أوضاع بهذا السوء.

في تراثنا قول مأثور يقول: laquo;إن الخرق قد اتسع على الراتقraquo;.. وهو قول يصف حال رجل راح يصلح ثوبا ممزقا، فاكتشف أن الخروق الموجودة في الثوب، أكبر من قدرته على رتقها، أو إصلاحها بمعنى أدق، ومن هنا، فإن السعي إلى المجيء بثوب جديد تماما في مكانه، هو الشيء الأسلم، والأوفر للوقت، والجهد..

شيء من هذا يبدو هذه الأيام في القاهرة، وربما يكون هذا الشيء المطلوب في مصر، أقرب إلى مصطلح laquo;البيروسترويكاraquo; الذي شاع أيام غورباتشوف في روسيا، وكان المصطلح يعني laquo;إعادة البناءraquo;.. بالضبط كما يريد ويفكر عمرو موسى في بلده.. وربما أيضا يكون المرشح الرئاسي في حاجة إلى مصطلح آخر ارتبط بغورباتشوف في مسيرته الإصلاحية، وهو laquo;الغلاسنوستraquo;، أي المصارحة، فبغير مصارحة الناس بحقيقة أوضاعهم العامة، لا يمكن أن يكونوا سندا للرئيس الذي يتولى الإصلاح، في أي مكان، بشرط طبعا أن يكون هناك مديى زمني محدد، له أول، وله آخر، لإتمام عملية الإصلاح خلاله.

وتلك نقطة لم يشأ عمرو موسى أن تفوته، وقد سارع منذ البداية، إلى التأكيد على أنه لن يبقى في قصر الرئاسة، أكثر من فترة رئاسية واحدة، طولها أربع سنوات، ولأنه قرر ذلك، وأعلنه، فهو يحدد منذ الآن، ما سوف ينجزه خلال هذه الفترة الرئاسية الوحيدة، ويشير إلى ما سوف يتركه من ورائه، ليذكره الناس به في ما بعد.

أما المرة الثانية، التي سوف يكون علينا أن نتوقف فيها، أمام عنوان برنامج عمرو موسى الانتخابي، فهي خاصة بالشق الثاني من العنوان، الذي يقول: رؤيتي للجمهورية الثانية.

إن هذا الشق معناه، أن صاحب البرنامج يدرك بوضوح، أن هناك جمهورية أولى قامت في مصر، عام 1952، وجلس على قمتها أربعة رؤساء: محمد نجيب، عبد الناصر، السادات، ثم مبارك، وقد انتهت يوم 11 فبراير (شباط) 2011 لتبدأ جمهورية ثانية، سوف يضع الأسس لها المرشح الفائز في انتخابات الرئاسة التي تجرى في 23 مايو (أيار) المقبل.

وسوف لا تتجاوز أنت، الصفحات الثلاث الأولى، من البرنامج، حتى تكون قد وقعت على شيء من الأسس التي يريد المرشح الرئاسي عمرو موسى أن يقيم عليها قواعد جمهوريته الثانية، فهو - مثلا - يرى أنه حين قرر أن يرشح نفسه لمنصب بهذا الحجم في بلد بوزن مصر، فإنه أدرك منذ أول لحظة، أنه لا يتقدم لشغل منصب، بقدر ما سوف يكون عليه أن ينهض بقيادة أمة في خطر، وبلد في أزمة، ولن يكون من الممكن تجاوز هذا الخطر، وتلك الأزمة، إلا إذا راح الرئيس الجديد يتعامل مع الأمور بشكل مختلف، وعندما يقول موسى في تقديمه لبرنامجه إنه يلتزم بأن يعيد الجدية إلى دوائر الحكم، والكفاءة إلى مجال الخدمات، وأنه سوف يضرب بيد القانون على كل أشكال الفساد والإفساد، فهذا كله يبعث على التفاؤل، لأن المتابع لأمورنا في بلد النيل، على مدى سنوات طويلة مضت، سوف يكتشف بالضرورة أن الجدية غابت كثيرا عن دوائر الحكم، وأن الكفاءة انحسرت عن مجال الخدمات العامة بشكل مزعج للغاية، وأن القانون كان يختار الذين يخضعون لعصاه، وأن.. وأن.. إلى آخره، وكانت النتيجة في مجال الخدمات، على سبيل المثال، أن الصحة، كخدمة، كان يجري تقديمها للملايين، دون أن تقترن بالكفاءة، كعنصر حتمي فيها، فأصبح العلاج للمريض، مسألة شكلية، ليس فيها جوهر، فهو، كمريض، يذهب ليتلقى علاجه في مستشفى حكومي، فيموت، لأن العلاج هناك، في أغلبه، شكل، لا مضمون! وهذا هو الحال نفسه في التعليم، كخدمة أخرى، ولا سبيل أمامنا إلا أن نقدمها لمستحقيها كما يتعين أن يحصلوا عليها.

في داخل البرنامج، هناك ست صفحات تتكلم عن التعليم والصحة، بشكل خاص، وكيف أن عمرو موسى سوف يعمل على أن يكون نصيب التعليم من الإنفاق الحكومي، واصلا إلى 25% من إنفاق الحكومة، وسوف يكون نصيب الصحة 15%، وعندي هنا ملاحظتان؛ أولاهما أني كنت أتمنى لو أن البرنامج اتخذ من هاتين الخدمتين، أولوية لا تزاحمها أولويات أخرى، لأنه من الصعب، وربما من عدم الجدوى، أن يعمل الرئيس الجديد، إزاء كل الملفات، بنفس الحماس، ونفس الهمة، ونفس الرغبة في الإصلاح.. هناك، دون شك، ملفات في حاجة إلى أن تكون على رأس الأولويات، دون منافس، وفي مقدمتها التعليم والصحة بشكل أخص.. أما الملاحظة الثانية، فهي تتصل بالإنفاق عليهما.. من أين، وكيف.. هذا هو السؤال!

في كل الأحوال، سوف يكون عمرو موسى مضطرا، حين يفوز، إلى أن يمد يديه، في كل وقت، إلى الدواء الروسي إياه.. فهو دواء مُر.. ولكنه فعال!