محمد كريشان

ميدان التحرير يستعيد عافيته الثورية في مليونية 'عزل الفلول' ... هكذا عنونت جريدة 'الشروق' المصرية تغطيتها للمظاهرة الشعبية الضخمة يوم أمس وسط القاهرة في انتظار مليونية مماثلة اليوم الأربعاء في الاسكندرية في ذكرى قتل الشاب خالد سعيد على يد رجال امن في مخافر الشرطة، فيما سيكون شعار مليونية يوم الجمعة في نفس الميدان 'الإصرار على المطالب'.
واضح اليوم أن ميدان التحرير بكل رمزيته التي أسقطت حكم الرئيس السابق حسني مبارك بعد 18 يوما من اندلاع ثورة 25 يناير قد عاد النشاط إلى مفاصله بعيدا عن أي تلوينات سياسية تماما كما كان أيام الثورة. ما كان ليتم ذلك لولا الحكم الصادم في الثاني من هذا الشهر ضد مبارك ونجليه ووزير داخليته وكبار مساعديه والذي فرق دماء شهداء الثورة بين القبائل بعد أن جعل من تحديد المسؤولية الجنائية عن قتل هؤلاء أمرا هلاميا أشبه باللغز الذي لا حل له. التجمهر الكبير في ميدان التحرير عقب هذا الحكم اعتبرته بعض الكتابات هنا، اليوم 19 للثورة (التي استمرت 18 يوما حتى تنحي مبارك في 11 فبراير)، استأنف فيه الناس التدفق نحو الميدان مثلما كان عليه الحال قبل الإطاحة بمبارك.
لماذا عاد الناس إلى الميدان؟ رد على هذا السؤال عمرو حمزاوي الباحث السياسي وعضو مجلس الشعب في مقال له بالقول 'لأن كثيرين منا يشعرون بأن الثورة يراد لها أن تعود إلى المربع رقم صفر بعملية سياسية لم تستقر، ذهبت بمسار لم يضع أسس النظام الجديد المتمثل في الدستور قبل البدء في بناء المؤسسات التشريعية والتنفيذية، كما ذهبت بحق وعدالة يغيبان كقيم في أمر هو من أغلى ما يملك المصريون، وهو حقوق شهداء ومصابي الثورة'. انعكست هذه الروح بشكل واضح في الشعارات الكثيرة المرفوعة ومن بينها 'ضحكوا علينا وقالوا محاكمة والعصابة لسة حاكمة' و'يسقط يسقط حكم العسكر، مصر دولة مش معسكر' و'القصاص القصاص قتلوا اخوتنا بالرصاص'.
وما يزيد في ألق العودة الشعبية القوية إلى ميدان التحرير، 'عاصمة الثوار'، وغيره من الميادين في مدن مصر أنه يتم بنفس الروح التوافقية الجامعة التي ميزت بالتحديد تحركات الناس الغاضبة أيام الثورة. تجلى ذلك في مشاركة الجميع بلا استثناء مع شعارات من قبيل 'الشعب يريد توحيد الميدان' و'عايزين نرجع زي زمان ... إيد واحدة في الميدان'. أما الذي جمع كل هؤلاء من جديد، بعد أن فرقتهم الاجتهادات المختلفة حول طريقة إدارة المرحلة الانتقالية، فهو الإحساس بأن الثورة على وشك أن تضيع من بين أيديهم. هنا يبدو حزب 'الحرية والعدالة' المنبثق عن جماعة الإخوان المسلمين الأكثر إحساسا بهذا الخطر بعد أن كان ركن لفترة لإحساس خادع بالاطمئنان بعد فوزه في الانتخابات البرلمانية إلى درجة تخليه عن كثير من التحركات الشعبية الضاغطة على المجلس العسكري الحاكم. هذا المعطى الجديد الهام، الذي لم يخفف من وطأته وجود محمد مرسي مرشحا رئاسيا لهم في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة، جعل مثلا الكاتب وائل قنديل يتقدم إليهم بنصيحة هي أقرب للتحذير حين كتب يقول لهم 'لا تخذلوا الميدان مرة أخرى كي لا يلفظكم عندما تحتاجون إليه في يوم قريب،، قريب جدا،، ربما يصحو فيه المعجبون بكثرتهم على حكم صادم آخر بحل البرلمان'.
عودة الناس بقوة إلى الشارع في ميدان التحرير وباقي ساحات البلاد أعاد السياسيين إلى رشدهم فشرعوا في تعديل ساعاتهم لتتناغم من جديد مع نبض الناس بعد أن ابتعدوا عنه بدرجات متفاوتة حين عدّل كثيرون عقاربها على توقيت جهة بعينها ظنا منهم أن الناس فقدت حماستها بل وكادت تنساق مع التخطيط الممنهج في تكفير الناس في الثورة وأهدافها. عادت الأحزاب جميعا إلى الميدان، الكفيل وحده الآن بإعادة منطق الضغط الشعبي لتعديل وجهة الأمور، وعادت معها شخصيات سياسية كثيرة إلى 'الحج' إلى هناك. رجل واحد فقط لم يفعل ذلك بعد أن كانت له، كما كتب فهمي هويدي، تجربتان سابقتان عبرت خلالهما الجماهير عن رأيها فيه برشقه على نحو جعل كثيرين يعودون إلى بيوتهم حفاة. إنه أحمد شفيق.