عبد الوهاب بدرخان

لم تبلغ مفاوضات إيران ومجموعة الدول الـ5+1 عتبة الفشل بعد. والأرجح أنها لن تتوقف كما حصل لجولات سابقة. ولذلك سببان: الأول مباشر، هو إن إيران باتت الآن تبحث عن اتفاق مع الدول الغربية، تفادياً للعقوبات النفطية والمصرفية الوشيكة، وكذلك لتغيير مجمل المقاربة الدولية لملفها النووي.

أما الثاني، فيتعلق بالأوضاع في الإقليم، وأهمها الأزمة السورية التي قرَّبت أكثر بين موسكو وإيران واضطرتهما إلى تنسيق سياساتهما صوناً لمصالحهما، ويعتبر الروس أن الوقت حان لاستخدام الملف النووي الإيراني بشكل يغري الغرب بإنهاء التوتر والتهديد بالحرب، ويتيح أيضاً تخفيف الضغوط على النظام السوري.

لكن التكتيكات الروسية - الإيرانية لم تتقاطع مع تلك الغربية. فمسألة الحرب، أو الضربة العسكرية، التي تواصل إسرائيل التلويح بها، لا تعدو كونها خياراً مطروحاً على الطاولة، ولو كان عملياً ومجدياً، وبلا مخاطر بعيدة المدى لما تأخر تنفيذه.

وحتى لو كان الغرب مستعداً لربط معالجة الوضع السوري بمعالجة الملف النووي الإيراني، إلا أنه لا يرى موجباً لتقديم تنازلات لإيران أو لروسيا، إذ أن نظام دمشق يمعن في تحقيق مصالح الغرب و(إسرائيل) حتى لو لم يتقصد ذلك من خلال إضعاف سوريا وتعريض مستقبلها كدولة موحدة أرضاً وشعباً لخطر التفكيك والتشظي.

كان واضحاً منذ الحماس الإيراني- الروسي لمعاودة المفاوضات في اسطنبول في أبريل، ثم الإصرار على أن تنعقد الجولة التالية في بغداد أواخر مايو، أن ثمة استعجالاً لإحداث اختراق جوهري في الأزمة. بل صوِّرت quot;جولة بغدادquot; على أنها إحداث الفارق بين ما قبلها وما بعدها. ولذلك رمزية بالغة الأهمية بالنسبة إلى طهران، فهي انكفأت بعد نهاية حربها مع العراق عام 1988 وعادت إلى عافيتها ونشاطها الإقليميين بفضل سقوط بغداد عام 2003، ثم أنها أعادت تفعيل برنامجها النووي في ظل انشغال العالم بالغزو والاحتلال الأميركيين للعراق، وها هي أصبحت quot;شريكاًquot; للولايات المتحدة في النفوذ داخل العراق إلى حد أنها تختار بغداد لتكون منطلقاً لعلاقة جديدة مع الغرب.

غير أن الطبع يغلب التطبّع، إذ جاء الإيرانيون إلى المفاوضات في العاصمة العراقية مسلحين بـquot;إنجازquot; جديد يريدون فرضه كأمر واقع على مفاوضيهم. رفعوا تخصيب اليورانيوم إلى نسبة 20 في المئة وطالبوا باعتراف غربي بحقهم في الحصول على quot;طاقة نووية سلميةquot; وبالتخصيب حتى هذه النسبة التي لا أحد يضمن أن تزداد سريعاً لو حصل الاعتراف بها.

كانت الأزمة بدأت لمجرد أن إيران عاودت التخصيب، وفرضت الحزمة الأولى من العقوبات حين كانت تحت الـ5 في المئة، واستمرت العقوبات تتراكم إلى أن بلغت ذروتها مع اقتراب تطبيق الحظر الأوروبي على استيراد النفط والتعاملات المصرفية بنهاية هذا الشهر.

وبعد أسابيع طويلة من التحديات والتهديدات المتبادلة بشأن اغلاق مضيق هرمز أو عدمه، واحتمال الحرب أو عدمها، وجدت طهران أن لديها مصلحة ملحة وعاجلة في الذهاب إلى التفاوض، بل أوحت أنها مستعدة لتنازلات ونصحت الطرف الآخر بأن يكون لديه الاستعداد نفسه.

لم يكن الدافع إلى التفاوض مقتصراً على تجنب العقوبات الجديدة، بل انطلق من حسابات استراتيجية عجّل بها تدهور الوضع السوري، الذي أنذر إيران بأن خريطة النفوذ التي ستفاوض عليها تتعرض لنكسة كبيرة.

وعندما بدأت المفاوضات في اسطنبول، كانت مصادر طهران تقول إنها ضمنت قبولاً غربياً ولو غير معلن بتخصيبها اليورانيوم بنسبة 5 في المئة، ملمحة إلى أن هذا يكفيها لتقديم تنازلات مقابل مشروع الدول الغربية في الاعتراف بنفوذها الإقليمي. لكنها فوجئت -وليس معروفاً لماذا فوجئت- بأن منهج التفاوض معها لن يتغير، أي أن اتفاقاً لن يكون ممكناً إلا إذا قالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إنْ كل شروطها وآلياتها للرقابة والتفتيش الدائمين قد استوفيت.

اكتشف الإيرانيون أن ثمة تبادلاً للأدوار قد حصل. ففي الجولات كانوا هم الذين يسعون إلى اللعب على الوقت كسباً أو إضاعة، أما الآن فإن الغربيين هم الذين يمارسون هذه اللعبة مدركين أن العقوبات باتت مؤلمة للنظام الإيراني، ولذلك فهو يريد خروجاً سريعاً من الأزمة. قد تكون طهران بالغت في قراءة التردد الغربي إزاء الخيار العسكري على أنه علامة قوة لها ويمكنها صرفها في المفاوضات، لكنها باتت تعرف اليوم أن صعوبة الإياب من الأزمة ليست كسهولة الذهاب إليها، ورغم ذلك فلا خيار آخر غير التفاوض، علماً أن الموقف الإيراني لا ينفك يضعف.