مالك التريكي


تسمى الحكومة الحالية في تونس حكومة ائتلافية أو حكومة ترويكا. تعبير كان تقريريا في البداية لكنه سرعان ما تحول إلى مجرد تعبير مجازي. إذ الواقع أن هذه حكومة حزب واحد هو حزب النهضة. وقد زادت استقالة وزيري الإصلاح الإدراي والمالية إمعانا في توضيح ما كان واضحا. كما تنعت بعض وسائل الإعلام هذه الحكومة بالمؤقتة، وتواظب على ذلك بشكل يدعو للعجب أو الإشفاق أو الإعجاب. تذكر المذيعة الحكومة ورئيسها ورئيس الدولة عشرات المرات في النشرة، ولكنها لا تسهو ولو مرة واحدة عن وضع الجميع بين قوسي العد التنازلي ولا تلهو عن واجب دمغ أولي الأمر.. الواقع بعلة الزمن العارض: المؤقت. والمؤقتة. تعبير كان تقريريا في البداية لكنه سرعان ما تحول إلى مجرد تعبير مجازي. إذ الواقع أن هذه حكومة سالمة من عاديات الوقت والتوقيت ممنوعة من صرف الزمن وصروفه. بل هي حكومة بارعة في 'قتل الوقت' (بالمعنى العامي المحيل إلى التزجية أو الهدر).
قتلت الحكومة وقت اللحظة الثورية إيذانا ببدء وقت الغنيمة السياسية، ثم جلست على شاكلة الشيخ 'كرونوس' لالتهام أبناء... غيرها. أبناء البلاد من أهل الثقافة والصحافة النزهاء المشهود لهم، على مر العهود والعقود، بالاستقلالية عن كل سلطة. فما هي النتيجة في هذا الوضع الملطّف بنسائم المجاز؟ أن المؤقت الوحيد في زمن الغنيمة المديد إنما هو الإعلام!
كيف ذلك؟ كتبنا هنا مطلع هذا العام أن من مفارقات الذكرى الأولى للثورة الشعبية في تونس أنها تزامنت مع تزايد المخاوف بشأن حرية الإعلام. كان السبب آنذاك أن الحكومة أعلنت تعيينات على رأس مؤسسات الإعلام العمومي بدون أي تشاور مع أهل المهنة، مثل نقابة الصحافيين وهيئة إصلاح الإعلام. وكان الذي جعل قرار التعيينات الأحادي والفوقي هذا مفتقرا إلى الحد الأدنى من المنطق، سواء السياسي منه أم الأخلاقي، أن بعضا من الأشخاص الذين أتى بهم القرار كانوا من الصداحين في جوقة التسبيح بحمد النظام السابق...! وقلنا آنذاك إن تعيين مسؤولي مؤسسات الإعلام العمومي تعيينا مزاجيا هو مسلك مرفوض من حيث المبدأ (بصرف النظر عن الحيثيات) لأنه 'مسلك تسلطي منكر لا يليق بحكومة ديمقراطية، حتى لو صادف أن أتى التعيين بأفاضل القوم مهنيا وأبعدهم عن الشبهات سياسيا'.


قال رئيس الحكومة آنئذ إن ما حدث خطأ لن يتكرر. وكان رأينا أنه إن كان خطأ حقا فهو 'خطأ أفدح من جرم'. خطأ 'كفيل بأن يضع حزب النهضة موضع المتهم الدائم كلما تعلق الأمر بالإعلام'.
العجيب المريب أن 'الخطأ' تكرر!!! فقبل أيام اتخذت الحكومة قرارا أحاديا فوقيا أسقطت بموجبه، على طريقة المظلّيين، مديرا عاما جديدا على رأس دار 'الصباح'، أعرق مؤسسة صحافية مستقلة في البلاد. وهي شبيهة بدار 'النهار' اللبنانية، من حيث كونها مؤسسة عائلية شيدت بالجد والكفاح. إلا أن صهر بن علي أجبر العائلة قبل أعوام على بيعها له قسرا... ولأن الحكومة حريصة على التماسك المنطقي بين الخطأ الأول والخطأ المكرر، فإن المدير الجديد هو أيضا قد كان من الصداحين في جوقة المسبحين بحمد نظام بن علي. على أنه يتميز على كثير منهم بأنه كان من ذوي الرتب في سلك... الشرطة.
يجمع الصحافيون المستقلون في تونس على أن هذه 'الأخطاء' المدروسة بعناية هي من بركات مستشار رئيس الحكومة السياسي الذي يلقبونه بـ'عبد الوهاب عبد الله حكومة النهضة'. أما عبد الوهاب عبد الله الأصلي، لمن لم يسمع به، فهو الرجل الذي عهد إليه بن علي المهمة المقدسة المتمثلة في تدجين الإعلام التونسي وجعله 'أسفه إعلام وأسخفه في العالم' (حسب وصف الأستاذ عياض بن عاشور). كان عبد الوهاب هو راسبوتين الإعلام طيلة العهد البائد. عن جدارة واقتدار. رجل لا يشق له غبار في مجال إحلال السلام عن طريق إقامة المناطق والجمهوريات المنزوعة من... الإعلام.


ولكن خيبة الأمل ستكون كبيرة لو توقف رئيس الحكومة عند هذا الحد. لهذا فالرجاء منه الآن أن يتكرم بارتكاب 'خطأ' آخر. الرجل 'صرف صرف'، كما يقول التعبير التونسي. أي بما أنه بدأ، فالأجدر أن يكمل. أفليس حريّا به الآن أن يضم عبد الوهاب الأصلي رسميا إلى الحكومة؟ إذ لا معنى لشجاعة الاستعانة الرسمية بصغار مبخّري نظام بن علي إلا إذا اقترنت بشجاعة الاستعانة بكبيرهم. أليس الأمر الواقع أن عبد الوهاب هو اليوم المتحكم في الإعلام رغم ظروف الغياب؟