Stanley Weiss- Jakarta Post

تواجه تركيا الآن مشاكل مع جميع الدول المجاورة لها (منها روسيا وإيران والعراق ومصر وإسرائيل وأرمينيا) بما يتناقض مع سياسة laquo;انعدام المشاكل مع دول الجوارraquo;، وبسبب هذا الوضع، كتبت جريدة laquo;راديكالraquo; التركية أن تركيا التي كانت تُعرف في السابق باسم laquo;رجل أوروبا المريضraquo; أصبحت الآن laquo;الرجل المعزول في الشرق الأوسطraquo;.
عندما اجتمع رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في الشهر الماضي مع الرئيس الروسي النافذ فلاديمير بوتين للتشاور حول الحرب الأهلية الحاصلة في سورية، كان يحق للمحللين السياسيين أن يشعروا بالحيرة.


فقد كان أحد الرجلين رئيس حكومة عمد إلى سجن صحافيين أكثر مما فعلت الصين وإيران معاً وتعزيز صلاحيات المحاكم الخاصة كي تعتقل المواطنين عند الاشتباه في تورطهم بتهم إرهابية من دون أن تتوافر الأدلة الكافية أو من دون منحهم الحق بجلسة استماع، كما أنه حكم على طالبَين بالسجن مدة ثماني سنوات بتهمة حمل لافتة تطالب بتحرير قطاع التعليم خلال مسيرة احتجاجية، وقد واجه أكثر من 20 ألف شكوى ضد أدائه في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان منذ عام 2008. نحن لا نتكلم هنا عن الرئيس الروسي بل عن أردوغان!
إن نجاح زعيم تركيا العلمانية والديمقراطية- وهي دولة حليفة للولايات المتحدة منذ فترة طويلة وإحدى الدول الأعضاء في حلف الأطلسي- في التفوق على بوتين نفسه في مجال سحق الحريات المدنية خلال السنوات العشر الماضية هو أحد المؤشرات الأولية على طريقة تغيّر السياسة في منطقة البحر الأسود. حتى عندما واجه بوتين جولة جديدة من الانتقادات العالمية بسبب الحكم على ثلاث نساء من فرقة ldquo;بوسي ريوتrdquo; بالسجن مدة سنتين، كان أردوغان يطبق بنجاح جميع الحِيَل التي يبرع فيها بوتين باستثناء حيلة واحدة، لكنّ ذلك الاستثناء الوحيد قد يترافق مع أخطر التداعيات على مستقبل تركيا ووجهة السياسة الخارجية الأميركية.
بالنسبة إلى بلدين مجاورين خاضا ثماني حروب منذ القرن الثامن عشر وحتى بداية القرن العشرين، من الواضح أن روسيا وتركيا لديهما نقاط مشتركة كثيرة.
يشكّل البلدان صلة وصل بين آسيا وأوروبا وقد كانا تاريخياً من القوى العالمية البارزة، كذلك، أعلن البلدان أنهما ينويان الانضمام إلى أوروبا، وفي عهد بوتين وأردوغان، خطا البلدان خطوات تاريخية بعيداً عن الديمقراطية في محاولةٍ لاستعادة المجد الغابر.
يعكس هذا المسار أربع خطوات نحو النزعة الاستبدادية في عصر العولمة الراهن.
الخطوة الأولى: استعمال النظام القضائي لسحق الأعداء تماماً مثل بوتين، استعمل أردوغان المحاكم لإنشاء ما سُمّي ldquo;مناخاً جديداً من الخوف في إسطنبولrdquo; (اعتبرت صحيفة ldquo;إيكونوميستrdquo; حديثاً أنه ldquo;يبني إطاراً قانونياً للحكم الاستبداديrdquo;).


تزامناً مع اعتقال الطلاب والصحافيين والناشطين بأعداد قياسية، استعمل معظم قوته لضبط الجيش الذي يدافع عن العلمانية في تركيا منذ عام 1921، عندما أنشأ مصطفى كمال أتاتورك تركيا المعاصرة من أنقاض السلطنة العثمانية.
في وجه أداء الدكتاتور المتعطش للدم في سورية، اعتبر أحد الأتراك أن الجيش هو ldquo;السبب الذي منع ظهور حاكم مثل الأسد في تركياrdquo;. لكن بعد سجن مئات الضباط اليوم واتهامهم بالتخطيط لتنفيذ انقلاب، أقال أردوغان هذا الشهر 40 أدميرالاً وجنرالاً بارزاً، وهم يخضعون للمحاكمة راهناً قبل التأكد من ذنبهم أو براءتهم.
لكن مثل بوتين، يحصل أردوغان على معظم صلاحياته من مواطنيه، فهو استلم اقتصاداً متدهوراً في عام 2003 وحوّله إلى أحد أقوى الأنظمة الاقتصادية في أوروبا. على المستوى الثقافي، تشهد مدن مثل إسطنبول ازدهاراً لافتاً، فيظن عدد كبير من الأتراك أن الحياة أفضل تحت حكم أردوغان وهم لا يؤيدون الانقلابات الثلاثة التي نفذها الجيش منذ عام 1960 ولا الحكومة التي أجبرها الجيش على التنحي في عام 1997.
الخطوة الثانية: إخفاء الإيديولوجيا الحقيقية وراء قناع الديمقراطية
مثلما يتحدث بوتين عن الديمقراطية في روسيا مع أنه لا يحاول إخفاء حنينه إلى أيام الاستخبارات السوفياتية والحكم المركزي في عهد الاتحاد السوفياتي، يشيد أردوغان بالديمقراطية تزامناً مع التعبير عن استيائه من الفصل بين الدين والدولة في تركيا وهو يعتبر نفسه ldquo;إمام إسطنبولrdquo; وrdquo;خادم الشريعةrdquo;.
منذ أن وصل حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان إلى السلطة في عام 2003، عزز الحزب عدد الطلاب الذين يحضرون المدراس الثانوية الإسلامية بثلاثة أضعاف، ومرر قانوناً جديداً يفرض على كل منشأة عامة في البلد أن تخصص غرفة لأداء صلاة المسلمين، وسيطر على الأكاديمية التركية للعلوم التي كانت علمانية تاريخياً، ويبنى عدداً إضافياً من المساجد أكثر من أي حكومة سابقة تزامناً مع الإعلان عن خطط لإنشاء مسجد عظيم في إسطنبول سيضم ldquo;أعلى مآذن في العالمrdquo;.


لا عجب أن الملك السعودي عبدالله منح أردوغان في عام 2010 أرقى الجوائز السعودية تكريماً لـrdquo;خدماته للإسلامrdquo;.
الخطوة الثالثة: إقامة صداقات مع خصوم قدامى على حساب الحلفاء القدامى
مثلما بنى بوتين صداقات مع خصوم قدامى مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا خلال ولايته الأولى، وصل أردوغان إلى السلطة وأعلن تعديلا استراتيجيا في السياسة التركية التي أصبحت تركز على مبدأ ldquo;انعدام المشاكل مع دول الجوارrdquo;.


لذا سعى إلى عقد شراكات جديدة مع إيران وسورية وليبيا وباكستان وrdquo;حماسrdquo;، وقد فعل ذلك على حساب الولايات المتحدة وإسرائيل.
عام 2003، حاز إشادة واسعة من العرب لأنه رفض الطلب الأميركي باستعمال الأراضي التركية لنقل القوات العسكرية إلى العراق. عام 2009، اعتُبر بطلاً مسلماً لأنه تخاصم مع الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز خلال المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس. لكنّ أكثر ما أثار استغراب القوى الغربية هو أنه انحاز إلى إيران ضد الولايات المتحدة في مسألة فرض العقوبات على طهران، ودعم خيار الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة، واعتبر أن الجنود الباكستانيين الذين قُتلوا عن غير قصد بالطائرات الأميركية بلا طيار هم ldquo;شهداءrdquo;. حتى إنه استلم جائزة لحقوق الإنسان من الطاغية الليبي السابق معمر القذافي.
الخطوة الرابعة: تعزيز القوة الشخصية عبر التلويح بالتهديدات لكن من دون تنفيذها
ثمة درس واحد لم يتعلمه أردوغان من بوتين على ما يبدو: يجب أن يترافق الكلام الصارم مع تحرك حاسم، لكن يبدو أن المعارك الوحيدة التي يستطيع أردوغان خوضها حتى الآن هي الحروب الكلامية، ما يجعله يظهر بصورة المسؤول ldquo;الساذج وغير الفاعلrdquo; بحسب كلمات الصحافي جدعون راتشمان.
تعهد أردوغان بالجمع بين حركتي ldquo;حماسrdquo; وفتحrdquo; ولكنه فشل في ذلك. كذلك، وعد بإبقاء حلف الأطلسي خارج ليبيا وفشل، ووعد بإنهاء تدخل حلف الأطلسي في ليبيا وفشل، وعندما قتلت إسرائيل تسعة ناشطين أتراك مؤيدين للفلسطينيين حين كانوا على متن سفينة مساعدات متوجهة إلى غزة في عام 2010، هدد بإرسال سلاح البحرية التركي لحماية الأساطيل المستقبلية، ولكنه لم ينفذ شيئاً من كلامه.
عندما بدأت قبرص تطور حقول النفط بعيداً عن ساحلها في عام 2010، هدد أردوغان بإرسال سفن حربية تركية ولكنه لم ينفذ كلامه. عندما قيل إن سورية أسقطت طائرة استطلاعية تركية في شهر يونيو الماضي، تعهد أردوغان بأن تعرف دمشق معنى الاستياء التركي ولكنه لم ينفذ كلامه، ونتيجة هذه المواقف، تساءل الكثيرون عما إذا كانت تهديدات تركيا أسوأ من أفعالها.
لكن قد يكون أداء أردوغان مختلفاً في الملف السوري، إذ أعلنت تركيا في البداية دعمها لسورية، ثم حاولت حثها على التغيير ثم انتقدتها قبل أن تتحالف رسمياً مع المعارضة السورية، وهكذا أصبحت تركيا في موقع غير مريح لأنها كانت الدولة الوحيدة التي سمحت بتحويل أرضها إلى قاعدة للمعارضة السورية، كما أنها كانت الدولة الوحيدة ضمن حلف الأطلسي التي تحاول إقناع الدول الأعضاء الأخرى بالتدخل.
يتهم مسلمون آخرون تركيا الآن بأنها جزء من ldquo;محور التخريبrdquo; ضد دمشق لأنها تصطف مع دول تعتبرها إيران مثلاً ldquo;أداة الشيطان على الأرضrdquo; (في إشارةٍ إلى الولايات المتحدة) بهدف إسقاط نظام إسلامي.


تواجه تركيا الآن مشاكل مع جميع الدول المجاورة لها (منها روسيا وإيران والعراق ومصر وإسرائيل وأرمينيا) بما يتناقض مع سياسة ldquo;انعدام المشاكل مع دول الجوارrdquo;. بسبب هذا الوضع، كتبت جريدة ldquo;راديكالrdquo; التركية أن تركيا التي كانت تُعرف في السابق باسم ldquo;رجل أوروبا المريضrdquo; أصبحت الآن ldquo;الرجل المعزول في الشرق الأوسطrdquo;.
بما أن دول حلف الأطلسي لن تهب لإنقاذ الوضع في أي وقت قريب، تجازف تركيا بأن يتحالف الأكراد الموجودون فيها (تحاربهم تركيا منذ ثلاثة عقود) مع الأكراد في سورية بهدف زعزعة استقرار الحدود الجنوبية التركية، وفي هذا الصدد، قال مركز الأبحاث عن العولمة: ldquo;إذا احترقت سورية، فستحترق تركيا في نهاية المطاف أيضاًrdquo;. يبدو أن أردوغان يستعين مجدداً بقواعد بوتين: بما أن فترة توليه منصب رئاسة الحكومة أصبحت محدودة، فهو يعمل على إعادة صياغة الدستور لمنح الرئيس صلاحيات إضافية. من المتوقع أن يترشح لهذا المنصب الرئاسي في عام 2014 كما فعل بوتين سابقاً. قيل إن سورية هي المكان الذي أثبت فيه أتاتورك حجم قوته حين كان ضابطاً عسكرياً شاباً.
بعد مرور قرن على ذلك، يبدو أن سورية قد تكون المكان الذي يكشف عن نقاط ضعف رئيس الوزراء التركي، فلا أحد يعلم ما سيؤول إليه الوضع بالنسبة إلى تركيا والولايات المتحدة، لكن سيتضح قريباً مدى تشابه بوتين وأردوغان.