رشيد الخيّون


في أحيان عديدة يساير الكاتب شعوره، لإيجاد ما يؤكد وجهة نظره، ويأخذه التأويل بعيداً عن الحقيقة، وربما وقعتُ في شَرك مِن هذا القبيل، وأسرع إلى التراجع. لكن في أمر الطائفية المذهبية لم أجد سبباً، مهما فتشت، سوى التحزب السياسي: سلطان يريد أن يسود، أو ثائر يَطلب المُلك، أو فقيه يرغب بالعصبة، أو خشيةً من استغلال جهة خارجية لأهل مذهب من المذاهب، فتشتد الوطأة على أهل المذهب كافة. ربما يكون السبب السياسي غير منظور، لكنه يظهر جلياً مثل الجراثيم تحت الأجهزة المكبرة سابحةً في الدماء.

عندما يُهيمن الإسلام السياسي، أي التدين الحزبي على اختلاف عناوينه، ليس لديه أكثر من الطائفية يطلقها فهي الأخصب لإيجاد حزب ديني. قد لا يحصل هذا بوعي وتدبير إنما اجتماع السياسة والحزبية مع الدين لا يولد سوى هذا الشعور التلقائي، ولنا أصدقاء كثر، ما قبل السُّلطة، ونعرف كيف كانوا يفسرون الوقائع، وحاشاهم من النفاق، فهم لا يتسترون بالطائفية إنما هي مغروسة في وعيهم حزبياً. أما الطائفيون، من غير الحزبيين المتدينين، فأولئك أشد نفاقاً يركبونها quot;لغرض يقضونهquot;!

ذلك ما حذر منه الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء (ت 1954) عندما أراد أمثال أولئك المنافقين (عام 1935) التلويح بعمامته راية، وأن يفتي بمطالب فئوية، بينما هو يدرك أن الحقوق تؤخذ في المطالب الوطنية، quot;فلما رُفع الهتاف بطلب فتوى الجهاد: quot;يمحمد حسين العَجل (السرعة)/ فتوى الجهاد إفتيهاquot; (الصغير، أساطين المرجعية العليا)، أدرك أن ذلك لا يتعدى الابتزاز السياسي.

الأنبار كبقية مدن العراق لها تاريخ عريق، فقد صارت اسماً لأكبر محافظات العراق مساحةً، وذات حدود دولية مهمة، تستقبل الفرات في أول اندفاعه إلى البلاد، ومن عجب أن الأنبار التي عيرت بعض لافتات متظاهريها مناطق الوسط والجنوب بالانتماء الفارسي أو الإيراني -لا أحسب هؤلاء إلا من الطائرين الذين لبسهم الهتاف الطائفي- بأن ملكاً فارسياً عمرها، وأخذت هذا الاسم من دورها في خزن الحبوب، فالأنبار لفظة فارسية بمعنى الممتلئة، يقابلها بالتركية والكردية العنابر. عمّرها سابور الأول (بين 241-272 ميلادية)، وسماها بزرج سابور أو فيروز سابور، أي فيروزة المَلِك، وبما أن معنى فيروز (تعريب پيروز) المبارك (شير، معجم الألفاظ الفارسية المعربة)، تكون الأنبار مباركة المَلِك.

لكن ليست هي البداية، إنما أقدم من ذلك بكثير، فقد ساق ملك بابل بختنصر (605-563 قبل الميلاد) إلى الأنبار أسرى حربه من العرب، التحق بهم بعد وفاته أسارى العرب بالحيرة quot;فعمرت كبلاد للعربquot; (الطبري، تاريخ الأمم والملوك). عرفت الأنبار عند اليونان باسم (بيرى سابوراس)، وأحرقها الرومان سنة 363 ميلادية (أصول أسماء الأمكنة العراقية، سومر 1952).

وفي أسفل الأنبار أصلح العباسيون النهر القديم، الواصل بين الفرات ودجلة، وأطلقوا عليه اسم ولي العهد المخلوع عيسى بن موسى (ت 167 هـ)، يجري حتى مصبه في دجلة عند كرخ بغداد، وهناك يتفرع إلى جداول تدور كالأهلة بين المحلات. ظلت الأنبار، وكل مدن أعالي الفرات، تُذكر مع حوادث الطريق إلى الشام، حتى أحياها مدحت باشا (1869-1872) بتعمير بلدة الرمادي، وعمر في الوقت نفسه بلدة الناصرية في أسفل الفرات.

قبل هذا مر بها ابن بطوطة (ت 779 هـ)، وقال: quot;فوصلت مدينة الأنبار، ثم إلى هيت، ثم إلى الحديثة، ثم إلى عانة، وهذه البلاد من أحسنها وأخصبها، والطريق في ما بينهما كثير العمارة، كأن الماشي في سوق من الأسواق، قد ذكرنا أنَّا لم نرَ ما يشبه البلاد التي على نهر الصين إلا هذه البلادquot; (الرحلة). كان ذلك عام 728 هـ، أي بعد اجتياحات المغول، فكيف تحولت إلى خطوط صحراوية، وهل أعادها النظام الذي كان محسوباً عليها، إلى ما تركها عليه ابن بطوطة؟ قطعاً لا.

أُذكر بالتاريخ ليكون أمام الأحياء عبرة، بأن الأمكنة مهما اختلفت عليها الأقوام هي باقية متجاورة، فمن المفروض بعد قطع الزمن للقرون الطويلة أن العقول قد تبدلت وأخذت تعي أن العراق هذا كان صُرة الدنيا، فأية حفنة من ترابه خلت من أثر نعمة؟ اعتبروا بالتاريخ، البعيد والقريب، فإن الأنبار التي اتخذ منها أبو العباس السفاح (ت 136 هـ) عاصمة، كادت تكون اليوم هي بغداد، لولا رغبة المنصور (ت 158 هـ) في الارتحال عنها. وعندها لم تبق على مذهب واحد لأنها العاصمة، وللعواصم طباع غير بقية المدن.

على الطرف الآخر أن يتذكر أيضاً أن النظام السابق، الذي يُصنف جهلاً أو قصداً على أنه كان سُنياً؛ كم انقلاب نظّمه عليه أبناء الأنبار! فهي لم تكن جنَّة الله في ظل الحاكم السني، ولا البصرة غدت جنته في ظل الحاكم الشيعي. لا يجب على الناس هناك أن يتحولوا إلى رافعي لافتات السلطة وهراوات بيدها، فهي تريد تسييس الشارع وتحزبه لها، ولا فخر في ذلك، فأية سلطة لا تستطيع دفع الملايين إلى الشارع في مظاهرات من أجلها! وتلك لعبة سابقة.

فمن أخلاق الديمقراطية، ولو على النموذج العراقي، أن التظاهرات مع السلطة تُعد نفاقاً. خرجت بدعاية أن تظاهرات الأنبار تدعو إلى عودة quot;البعثquot;! وربما تستغلها بقايا quot;البعثquot; وتوجه هتافها، وإذا كانت بقية quot;البعثquot; تحاول لفت الأنظار إلى وجودها، فإن السلطة الحالية مسرورة لدس هذه الهتافات بين المتظاهرين، لأنه يطعن بشرعيتها، فحسناً فعلت المرجعية الشيعية بعدم التظاهر، والمقصود مع السلطة، وعلماء دين من السنة حذروا من استغلال التظاهرات، ويعنون خطاب بقية الحزب السابق. أما quot;البعثquot; كحزب فمنه جناح كان فعالاً في المعارضة ضد شقه الحاكم!

طالبوا بحقوق وطنية، ولا تتهاونوا في العليا منها كتحديد الرئاسات بدورتين، وقانون المحكمة الدستورية، فالقضاء صار أُلعوبةً بيد السلطة التنفيذية، وهي طائفية لأنها تُقاد بفكر ثأري لا يجيد سوى ممارسة هذا الشعور. ليلغى الاجتثاث، والمخبر السري، فقد حلا محل قوانين مجلس قيادة الثورة القاضية بإعدام المندسين (107 المادة 200 لسنة 1974). أقول: تلك المطالب من السلطة لا من الشيعة! فلا أنتم كطائفة ومنطقة بالأمس كنتم السلطة ولا هم اليوم صاروا السلطة، إنما القرب والبعد منها على قدر ما يشترطه الجائعون للسلطة وغنيمتها.