قدري حفني

لقد عاش في ظل الصراع العربي ـ الإسرائيلي ما يزيد علي ثمانية أجيال من العرب واليهودrlm;:rlm; من انتفاضة البراقrlm;1928rlm; إلي يومنا هذاrlm;.rlm;

بحيث أصبح ذلك الصراع سمة أساسية في حياتهم, تمتد آثاره إلي ما هو أبعد كثيرا من الزعماء السياسيين وصناع الرأي العام لتصل إلي أعماق المجتمع, بحيث يصبح جزءا من الأغاني والأدب, بل وحتي من اللغة, وبحيث تصبح الأحداث العنيفة جزءا من التاريخ الشخصي يتوارثه أبناء الطرفين المتصارعين حتي هؤلاء الذين لم يخدموا في الجيش ولم يسهموا إسهاما مباشرا في القتال, حيث لا تخلو ممارساتهم لأفراحهم وأتراحهم واحتفالاتهم الدينية من تداعيات متصلة بالصراع, وتتغلغل تأثيرات هذا النوع من الصراع الطويل في أبنية المجتمع كافة, بحيث يصبح جزءا لا يتجزأ من أعماق الهوية القومية لأفراد كل جماعة من الجماعات المتصارعة: يشكل أنماط سلوكهم, و صورتهم عن أنفسهم, وإحساسهم بمكانتهم في العالم إلي آخره.
ويجب أن ننتبه إلي أنه في ظل صراع من هذا النوع يسعي كل طرف أو ينبغي أن يسعي- لتشكيل مدركات الطرف الآخر للصراع بما يتفق مع رؤيته. وللحقيقة فقد استطاعت الصهيونية التأثير إلي حد كبير في تشكيل إدراك قطاعات كبيرة من جماهيرنا للصراع بحيث أصبح إدراكها يكاد يتطابق مع الرؤية الصهيونية من حيث اعتباره صراعا دينيا بين اليهود و أعدائهم الذين يسعون لإبادتهم.
لقد تبلورت الصهيونية في القرن التاسع عشر كمنظومة فكرية تقوم علي التسليم بأن ثمة مشكلة يهودية أزلية لا حل لها إلا بإقامة دولة لليهود علي أرض فلسطين, و سرعان ما تحول الفكر الصهيوني إلي سلسلة من الممارسات العملية التي انتهت إلي قيام دولة إسرائيل. و حرص قادة الصهيونية و دعاتها علي اصطناع نشأة للصهيونية ترجع بها إلي تاريخ موغل في القدم يمتد إلي نشأة الديانة اليهودية أو علي وجه الدقة إلي تاريخ الشتات اليهودي, و من ثم يصر قادة إسرائيل حتي يومنا هذا علي أنه لا فرق بين الصهيونية, واليهودية, والإسرائيلية, كذلك لم يكف قادة إسرائيل عن الزعم بأنهم ينطقون باسم يهود العالم والحرص دائما علي الخلط بين الدين اليهودي و الفكرة السياسية الصهيونية الحديثة و دولة إسرائيل الأحدث.
وإذا كان مثل ذلك الخلط مبررا باعتباره يصب في صالح الصهيونية و إسرائيل, وإذا كان الفكاك من ذلك الخلط قد يحتاج جهدا تأويليا مضنيا من جانب بعض فصائل قوي الإسلام السياسي; فإن الأمر يصبح مثارا للريبة إذا ما تبني مصريون قوميون بل ويساريون الرؤية الصهيونية الدينية العنصرية للصراع, و يصبح الأمر أشد غموضا إذا ما واجهت المعارضة المصرية التي ترفع راية الدولة المدنية تصريحات الدكتور عصام العريان الأخيرة التي دعا من خلالها اليهود للعودة إلي بلادهم; بالانزلاق إلي ترديد شعارات صهيونية متطرفة تضع اليهود جميعا في سلة واحدة ومن ثم تكرس دولة إسرائيل باعتبارها دولتهم و المتحدثة باسمهم.
إننا بذلك نتناسي أن يهود مصر علي سبيل المثال لم يصطفوا جميعا خلف إسرائيل والصهيونية, ونحن لا نتحدث في هذا السياق عن مواقف فردية شجاعة كموقف اليهودي المصري الأصيل شحاتة هارون بل نشير إلي موقف الرابطة اليهودية لمكافحة الصهيونية و هي منظمة يهودية مصرية حيث أصدرت يوم26 مايو1947 أي بعد قيام دولة إسرائيل بالفعل بيانا ينص علي أن الصهيونية عدو اليهود كما رفضت الرابطة نفسها في كتيب أصدرته في الشهر التالي مقولة أن أمة يهودية قد تشكلت في فلسطين.
إن أحدا لا يستطيع أن يضع جميع من ينتسبون لدين معين في سلة واحدة, فلا أحد يستطيع مثلا أن يضع باروخ جولدشتاين المستوطن اليهودي الإسرائيلي الصهيوني الذي ارتكب مجزرة الحرم الإبراهيمي في25 فبراير1994, في سلة واحدة مع ريتشيل كوري الفتاة اليهودية الأمريكية التي سحقتها الجرافات الإسرائيلية في17 مارس2003, وأن يضع في نفس السلة تالي فحيمة اليهودية الإسرائيلية عضو الليكود السابقة والتي اعتقلت في أغسطس2004 بتهمة التعاون مع كتائب الأقصي.
وماذا بعد؟ إن الصراع الحضاري مع إسرائيل سوف يستمر حتي بعد استكمال إزالة آثار عدوان1967, صراعا بين أطراف تجمعهم الجغرافيا ويظلون مختلفين حضاريا وسكانيا و يظل التاريخ الطويل الدامي ماثلا في وعيهم; والطرف الذي لا يمارس دورا فعالا في مثل هذا الصراع من الآن, يغامر بفقدان مستقبله المستقل.
لقد استمرت الحروب الصليبية حقبا طويلة, وطال الحكم النازي لسنوات, وكذلك النظام العنصري في جنوب إفريقيا, وكلها ظواهر قامت معاكسة لحركة التاريخ واندثرت في النهاية ولكن بعد سنوات طالت, وذلك بفضل قوي التقدم التي أحسنت قراءة حركة التاريخ. وإذا كان اندثار مثل تلك الظواهر أمرا طبيعيا مفهوما, فإن ما يستحق منا التفسير هو أسباب حدوثها واستمرارها لحقب طويلة.
خلاصة القول: فليختلف من شاء أن يختلف مع الدكتور عصام العريان ومع المنطلقات الفكرية والممارسات العملية للإخوان, ولكن لا ينبغي لمثل تلك الخلافات مهما كان عمقها أن تدفعنا للاصطفاف تحت رايات العنصرية والتعصب الديني, متناسين أن الحقائق العلمية فضلا عن الحق العربي تلزمنا بحتمية التفرقة الحاسمة بين اليهودية والصهيونية.