صلاح سالم
يكشف السلوك السياسي لجماعة الإخوان المسلمين عن كثير من الملامح الثقافية والمكونات النفسية التي غالبا ما تسم سلوكيات الجماعات المغلقة التي عرفها التاريخ الإنسانيrlm;,rlm; وهنا وقفة عند بعض الملامح الأكثر أساسيةrlm;:rlm;
الملمح الأول: هو الرؤية الاختزالية للتاريخ, التي تعتمدها الجماعة, عندما تنظر بقدسية, كأحد التيارات الإسلامية, إلي الحقبة التاريخية القصيرة التي شهدت الخلافة الراشدة, باعتبارها حقبة مرجعية يقاس إليها التاريخ الإسلامي الممتد, والذي شهد تراجعا حضاريا هائلا واستبدادا سياسيا شديدا, بفعل الطبائع البشرية المتغيرة, والسنن الكونية المتحولة بعد انبلاج الإسلام في موجته الأولي الرائعة, حتي أخذ هذا التراجع شكل الانهيار الكامل مطلع العصر الحديث. غير أن تلك الرؤية لا تري هذا الانهيار الممتد لخمسة قرون علي الأقل قبل مجيء الغرب, وبزوغ عصر الدولة القومية الحديثة التي يبررون بها تخلفنا الراهن, وكأن الدولة( المملوكية والعثمانية) هي الحل. وبرغم أن هذه الدولة التقليدية تمتد في أفق تاريخي يربو علي ستة قرون, قياسا إلي دولة الخلافة الراشدة التي كانت محض استثناء لم يدم أكثر من ثلاثة عقود, فإنهم يعتقدون بإمكانية استعادة الدولة الراشدة, هذا الاستثناء البعيد, تجاهلا للدولة المملوكية العثمانية, هذا الواقع القريب, وهو نفس المنطق الاختزالي الكامن في الرؤية الصهيونية للتاريخ, التي تسقط عمدا تاريخا حقيقيا للأرض العربية المحتلة يمتد لآلاف السنين جسده العنصر العربي باستمرارية ملحوظة, وتعود في المقابل إلي لحظة تاريخية( سحرية), شهدت دولة يهودية لا تؤيدها سوي رواية توراتية غالبا ما تتناقض مع حقائق التاريخ, وحتي في حال صدقيتها, فإنها لا تعدو لحظة عارضة في صيرورة تاريخية ممتدة.
والملمح الثاني هو عقلية الكهف, فالجماعة التي ظلت محاصرة دائما, اندرج أعضاؤها فيما يسميه علم الاجتماع السياسي بـ( المجتمع الرحيم), والذي يكاد يمثل( جيتو ثقافيا), فالحياة مغلقة علي الأعضاء المنتمين إيديولوجيا, يسودها نوع من التراحم الذي تولده تجربة التعرض المشترك لنوع من الظلم. وبرغم أن الدين, في العموم, يوفر لكل معتنقيه نوعا من الشعور باليقين ناجما عن الشعور بالعناية الإلهية التي ترعاه وتعتني به, وتكفل له نوعا من التضامن الرأسي مع القدرة الإلهية نفسها, فإن الانتماء إلي مثل هذ الجماعات الدينية المغلقة يوفر مستوي آخر من التضامن الأفقي المؤسس ليس فقط علي مستويات التنظيم بين أعضائها, بل وأيضا علي العلائق( التكافلية) داخلها, والتي تكفل لهم نوعا من الأمن والحماية والتعزية عند الشدائد والملمات, إلي درجة تبرر وصف العلاقة داخل هذه الجماعات بالمجتمع الرحيم.
وإزاء الحاجة إلي الأمن النفسي والجسدي يزداد تشبث العضو بالانتماء لهذا المجتمع الذي يصير ملاذا آمنا, حتي أنه, مع طول البقاء داخله, يفتقد تدريجيا حساسية التعامل مع الآخرين خارجه, وهو أمر نلاحظه بوضوح عند مراقبة الأداء السياسي للرئيس ونمط اختياره لمساعديه ومستشاريه من الفناء الضيق للجماعة ومريديها والمتعاطفين معها من ذوي الكفاءة المحدودة والخبرة السياسية المعدومة, مع ما يمثله ذلك من إهدار للكفاءات الوطنية الكبيرة التي كان ممكنا أن يسهموا إسهاما كبيرا في إدارة الدولة وإنجاح التجربة الإخوانية.
والملمح الثالث هو عقدة المؤامرة التي يبدو أن الجماعة طورتها في مواجهة حالة القمع, نتيجة لشعورها بأنها تسبح ضد نظم سياسية معادية طوال الوقت منذ زمن الاحتلال في العصر الملكي الذي شهد كثيرا من العنف ضدهم ومن العنف الذي مارسوه ضد غيرهم, وسلسلة الاغتيالات سواء التي طالت رجال هذا العصر أو طالتهم من هذا العصر الذي لم ينته قبل اغتيال مرشدهم المؤسس. وبعد ذلك في العصر الناصري الذي تم خلاله قمعهم بشدة رغم قربهم الأولي من جمال عبد الناصر, ونتيجة لميولهم الاستحواذية, ونزوعهم إلي تديين الدولة ضد المنطق الحداثي الصارم للرئيس, والذي مارسه بإصرار قامع لكل من يخالفه. ثم في العصر الساداتي الذي تحرروا فيه نسبيا, ولكنهم أساءوا استخدام الفرصة, فقامت الدولة وأجهزتها الأمنية بقمعهم عقب اغتيال الرئيس السادات, ثم حظرهم قانونيا طوال عصر الرئيس السابق.
وبرغم أن قدراتهم التنظيمية قد وضعتهم في صدارة القوي السياسية في العصر الجديد, وبرغم انتماء الرئيس الحالي إليهم, وكذلك مجلس الشوري القائم, كما كان البرلمان المنحل, فإنهم لا يزالون يشعرون بعقدة الاضطهاد وهم في الحكم, فالجميع يتآمرون عليهم, بل وصلت العقدة إلي حد السخافة عندما تصوروا أن بعضا من رجال المعارضة يخططون لاختطاف رئيس تحميه كل أجهزة الدولة الأمنية, ناهيك عن شرعيته السياسية التي يحترمها جل المصريين. قد يبدو هنا نوعا من المبالغة التي يتم توظيفها لتبرير مسالك معينة( قمعية) وخدمة أهداف معينة( استبدادية), غير أن للأمر جذورا حقيقية, تنبت من عقدة نفسية عميقة لا يمكن إزالتها بسهولة, ينسون معها كونهم في الحكم, ويأخذون في القيام بدور المعارضة الذي اعتادوه.
والملمح الرابع هو البرجماتية المفرطة التي تصل إلي حد الانتهازية, بإطلاق الوعود وإنكارها طالما كان ذلك ممكنا, ومفيدا. لقد قدم الإخوان وعودهم في مراحل جد مختلفة من مسارهم السياسي الذي شهد لحظات تأزم واحتياج للقوي الوطنية, ولحظات انتصار ونشوة تشي باقتراب ما يسمونه لحظة( التمكين). وقد أثبتت التجربة قدرتهم علي خلف كل ما وعدوا به في لحظات الاحتياج, بمجرد شعورهم بعدم الاحتياج, وان يتنكروا لكل من ساعدهم في عملية التمكين بمجرد أن يستوثقوا من ذلك التمكين, فالمرجع في تقييم موقف ما هو حجم فائدته لهم في المستقبل, وليس مدي التزامهم بما عاهدوا الآخرين عليه في الماضي.
وهكذا نستطيع الإدعاء بأن السلوك السياسي لجماعة الإخوان يشبه كثيرا ذلك السلوك الذي تمارسه الكثير من الجماعات المغلقة, وضمنها الجماعة اليهودية مثلا, التي عاشت شتاتا تاريخيا طويلا, وطورت عقلية كهف وعقدة اضطهاد لا تزال مهيمنة عليها برغم نجاحها في احتلال فلسطين, وبناء ترسانة عسكرية هائلة تهيمن بها علي معظم جيرانها. وهنا لابد من التساؤل: إذا كانت الجماعة اليهودية لم تتخلص بعد من عقدها برغم مرور ستين عاما علي نشأة دولتها, فكم من الزمن تحتاجه الجماعة للتخلص من عقدها وهي بصدد إنشاء سلطتها.
التعليقات