محمد السعيد ادريس

العلاقة بين العراق (الجديد)، وأقصد عراق ما بعد الاحتلال، والولايات المتحدة ستبقى رغم مضي أكثر من عام على الانسحاب العسكري الأمريكي، رهن المرتكزات التي أرساها الاحتلال وعلى الأخص الطائفية السياسية والتقسيم والدستور (غير القانوني) . هذه المرتكزات الثلاثة التي مازالت تمثل جوهر ما يسمى ب ldquo;العملية السياسيةrdquo; التي أعقبت الغزو عام ،2003 هي المسؤولة عن كل ما يحدث في العراق الآن من أزمات تحول دون تحريره من أسر الاحتلال الذي مازال جاثماً عليه، رغم كل ما يشاع عن انسحاب عسكري رسمي، وهي أيضاً المسؤولة عن استمرار الهيمنة الأمريكية على القرار السياسي في العراق، رغم كل ما يشاع عن نفوذ إقليمي إيراني وتركي قوي في العراق، لسبب أساسي هو أن النفوذ الإيراني والتركي ليس إلا مجرد أحد أبرز تداعيات بقاء العراق مرهوناً للاحتلال الأمريكي الفعلي ومرتكزاته، ومن ثم لا سبيل للعراق إلى التخلص من أزماته ومن صراعاته الداخلية وتغلغل النفوذ الأجنبي الدولي والإقليمي إلا بالتخلص من هذه المرتكزات الثلاثة، وهذا لن يتم إلا بمشروع وطني شامل يعيد إلى العراق وحدته الوطنية ويحقق المصالحة بين كل أبناء الشعب العراقي، ويعلي من قيمة مبدأ المواطنة بمنظمات وأحزاب وطنية عابرة للانتماءات العرقية والطائفية والمذهبية .

هذا الاستنتاج كان من أبرز ما توصل إليه مؤتمر ldquo;عشر سنوات على احتلال العراقrdquo; الذي نظمه ldquo;المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة (10-11 إبريل/نيسان الجاريrdquo;، لكنه لم يكن استنتاجاً كافياً كحل ناجع للعراق من أزماته، فهو يعد بمرتبة ldquo;نصف حلrdquo; لأنه من دون وجود قوى وطنية عراقية مؤمنة بهذا الحل وقادرة على تفعيله ومن دون توافق هذا الحل مع مصالح الأطراف الدولية، الإقليمية معه، فإنه سيبقى مجرد رؤية أو فكرة لا تملك مقومات التحول إلى استراتيجية وطنية وسياسات عملية قادرة على استعادة العراق وتخليصه من أزماته .

هل عودة العراق مطلوبة حتى لو كان عراقاً مؤمناً بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار، وحتى لو كان عراقاً ينعم بديمقراطية حقيقية وليست ديمقراطية مزيفة؟ ومن هم هؤلاء من العراقيين ومن الأطراف الإقليمية والدولية، وقبلهم جميعاً الأطراف العربية، من يهمه ومن تتوافق مصالحه مع عودة العراق قوياً ومتماسكاً ومزدهراً وعوناً لأمته التي تئنّ من عجزها ومعاناتها واختراقها غير المحدود من قوى الهيمنة والسيطرة الخارجية التي تعاني الأمرين داخلياً في ظل الخضوع لأنظمة حكم متسلطة مفعمة بالفساد السياسي والمالي ومعادية لكل دعوة تغيير أو إصلاح؟

الأسئلة صعبة وإلا لماذا كان غزو العراق؟ ولماذا كان احتلاله؟ ولماذا كانت غبطة وسعادة إيهود أولمرت رئيس حكومة الكيان الصهيوني الأسبق في لقائه الوداعي مع الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش عندما توجه إليه بعميق الشكر والامتنان لقراره غزو العراق، لأن هذا الغزو أخرج العراق نهائياً من معادلة الصراع العربي - ldquo;الإسرائيليrdquo;، بتدميره أولاً، ثم بالهيمنة والسيطرة على قراره السياسي عبر تلك المرتكزات الثلاثة المشار إليها؟ ولماذا كانت مشاركة البعض؟ ولماذا كان صمت البعض الذي كان يعني الرضا عن هذا الغزو؟

قليلون هم المهمومون الآن بعودة العراق وخلاصه من كل ما يعانيه، لكن الأغلبية المحرومة والمهمّشة داخل العراق من كل ما أخذ يسمى ب ldquo;مكونات العراقrdquo; من السنة والشيعة والأكراد، تتطلع إلى عودة العراق موحداً أرضاً وشعباً وتماسكاً، وقوياً، وقادراً على أن يقوم بدوره العربي المطلوب والمأمول . هؤلاء هم المحرومون من ثروات وخيرات العراق، كل من رفضوا الاحتلال أو المشاركة في العملية السياسية التي كرست الاحتلال واقعاً مؤسسياً لتفكيك وحدة العراق وإخضاعه للطائفية السياسية والتقسيم الرأسي للعراقيين حسب انتماءاتهم العرقية والطائفية من رأس الدولة إلى أدنى مسؤول في الهيكل الوظيفي، وكل من اكتشفوا مدى فساد هذه العملية السياسية بعد المشاركة فيها، وكل من يدفعون أثمان مخرجات الاحتلال وعمليته السياسية تلك من إرهاب انتهج العنف المفرط أداة له، ومن فساد مالي وإداري غرقت فيه الطبقة السياسية الجديدة الحاكمة تحول إلى نهب منظم للمال العام، ومن تدخل وتغلغل للنفوذ الخارجي الأمريكي والإيراني والتركي .

من الصعب أن نأخذ ما ورد في المقال الذي نشره نوري المالكي رئيس الحكومة العراقية في صحيفة ldquo;واشنطن بوستrdquo; مأخذ الجد، ومن الصعب التعويل على انسحاب وزراء أكراد أو وزراء من ldquo;القائمة العراقيةrdquo; بزعامة إياد علاوي باعتباره خطوة هدفها التصحيح والإصلاح، فهذا كله مجرد ldquo;صراعات داخل القصرrdquo;، ليست لها أدنى علاقة من قريب أو من بعيد باستعادة العراق .

المالكي لم يستطع تحمل انتقادات جون كيري وزير الخارجية الأمريكي لسياسته إزاء الأزمة السورية واتهاماته بدعم نظام بشار الأسد بتعاون وتنسيق مع إيران، فقد بادر المالكي إلى كتابة هذا المقال الذي استهله بنفي ما أسماه ldquo;تلك النظرة التشاؤمية التي ترى أن الولايات المتحدة خسرت العراقrdquo; . هو إذاً، مع تأكيد أن العراق مازال في قبضة الولايات المتحدة، لذلك نجده يؤكد أن ldquo;علاقتنا مع الولايات المتحدة لم تنتهِ برحيل القوات الأمريكيةrdquo;، وإذا كان قد حرص على أن يؤكد أن العراق أيضاً ldquo;ليس محمية أمريكية بل شريك يتمتع بالسيادةrdquo;، فإن رسالته وصلت إلى واشنطن وإلى كل من يهمه أمر العراق داخله وخارجه، فالعراق مازال خاضعاً لتركة الاحتلال، وقوانينه الحاكمة، لكن أكثر ما يطمح إليه هو هامش من التمايز في قرار السياسة الخارجية .

كلها مجرد ldquo;صراعات قصرrdquo; بدليل أن المالكي سائر في طريقه الذي اختاره من دون كوابح، وحتى من دون اعتبار لحلفائه وفي مقدمتهم مقتدى الصدر الذي أصبح غاضباً من انشغال المالكي بالدعاية الانتخابية التي يشرف عليها من دون اكتراث ب ldquo;انتهاك حرمات العراقيين ودمائهمrdquo; بسبب التفجيرات التي لا تنقطع . وهي صراعات لن تؤدي إلى تغييرات أو حتى إصلاحات حقيقية في العراق من دون التصدي لمرتكزات الاحتلال التي مازالت تحكم العراق .