على مبروك

عن اختراع حوامل يعلقون عليها انقسام عالمهم وتشظيه; وبما يعنيه ذلك من أن الأصل في العالم هو الانقسام والتباعد.
وهذا النوع من الانقسام هو أحد نتاجات رؤية للعالم استقرت وغلبت داخل التراث الإسلامي; وذلك مع ملاحظة أن تلك الرؤية للعالم تعد من رواسب ومخلفات عالم القبيلة الذي جاء الإسلام, في سعيه إلي بناء عالم جديد, لكي ينفيه ويرفعه, لكنه استمر حيا وفاعلا في وعي العربي حتي الآن, علي الرغم من غياب القاعدة المادية الحاملة له في الواقع. إن ذلك يعني أن' القبلية' تستمر فاعلة في الوعي الراهن; ولو كرؤية محفزة للانقسام والتفكك, وذلك علي الرغم من غياب الحامل الواقعي لتلك الرؤية( الذي هو القبيلة).
ولقد بدا أن أحد أكثر هذه الحوامل ــ التي لا يكف هذا الانقسام عن تعليق نفسه عليها ــ رسوخا وحضورا, هو ذلك الانقسام بين السنة والشيعة الذي لا يوجد ما هو أكثر فاعلية منه في التجربة التاريخية للمسلمين, علي العموم. فمنذ اللحظة التي انفجر فيها هذا الانقسام, مع تصاعد الأحداث التي انتهت بمقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان, فإنه لم يتواري عن المشهد أبدا, وظل يعاد إنتاجه تحت رايات دول وأقوام تتبدل مواقعها علي ساحتي التاريخ والجغرافيا; ولكن من غير تبديل في عناصر المشهد ذاته. إذ هو مشهد الدم يتحرك من زمن المقاتل الأولي في صفين وكربلاء إلي المقاتل الجارية الآن بين ذات الطوائف المتنازعة, في نفس الساحات, وتحت نفس الرايات تقريبا. وكذا فإنه يبدو وكأن الإمبراطوريات التي تقاتلت قديما تحت رايات عباسية وفاطمية, ثم رايات عثمانية وصفوية, إنما تنبعث الآن لكي تستأنف ما كان من صراعاتها القديمة.
وضمن سياق هذا الترجيع, فإن الورثة لا يستدعون الأحداث بمجردها, بل يستدعون معها كل الأبطال والرموز الذين كانوا هناك في الزمن الأول. وهكذا فقد حضر الرموز جميعا من الصحابة وآل البيت وأمهات المؤمنين, وحضر معهم ــ وربما قبلهم ــ الفرقاء الذين تحزبوا لهم, وعلي النحو الذي بدا معه أن أربعة عشر قرنا من الزمان لم تكن إلا محض زمان ميت ظل الحدث طافيا فوق سطحه الراكد, حيا وطازجا من دون أن يضعف أو يبهت. بل وحضرت اللغة بنفس ألفاظها وقاموس مفرداتها من قبيل' المبتدعة والرافضة وأهل الأهواء' وغيرها. وإذن فإنها الذاكرة التي لا تذبل أو تموت وهي تقهر التاريخ, وتلقي به في غيابة جب الماضي, ولا تسمح له إلا بأن يكون تاريخ تكرار واستعادة, وليس تاريخ إبداع وولادة. وبالطبع فإنه لن يكون غريبا, ضمن هذا الترجيع, أن يطلق العرب علي حربهم الأخيرة في الخليج, نفس تسمية' الفتنة الكبري' التي سبق أن أطلقوها علي ما جري في حرب صفين القديمة.
ولسوء الحظ فإنها لا تكون الاستعادة- أبدا- لما جري في صورته الأصلية, بل في صورته المتخيلة المصنوعة التي لا تكاد تنطق إلا بعكس ما قد جري فعلا. وهكذا فإن الانقسام بين السنة والشيعة لا يستعاد بوصفه انقساما بين فرقاء اصطرعوا علي السلطة واقتتلوا حولها, ثم راحوا يرتفعون بأصول اختلافهم من الأرض إلي السماء; حيث أخفوا الأصل السياسي الذي يتنازعون حوله وراء قناع ديني سميك. وقد كان الواحد من هؤلاء الفرقاء يسعي, من وراء هذا التعالي إلي السماء, إلي تحصين مواقفه وتثبيت اختياراته أو انحيازاته, عبر ما يخلعه عليها هذا التعالي من سمات الديني' المقدس' وينأي بها عن الارتباط بالسياسي' المدنس'. والمهم أن ما كان مجرد انحيازات تحتاج إلي التعرية والفضح يتحول, عبر هذا التعالي, إلي' معتقدات' يتقاتل الناس ويموتون تحت راياتها المقدسة. لا تستعاد تلك الجذور الدفينة للخلاف أبدا, بل إنه يستعاد بما هو خلاف يقوم أصله ومنتهاه في السماء; وأعني فيما هو ديني محض, حيث يجري التغييب الكامل لكل ما هو سياسي وواقعي.
ولأن السماء هي فضاء المطلقات, فإن ما يرتفع إليها لابد أن يصبح مطلقا لا محالة. وهكذا فإن الخلاف بين السنة والشيعة سوف يصبح, عبر الارتفاع به من الأرض إلي السماء, من قبيل' المطلق' الذي لا سبيل إلي حله أو رفعه. إذ الخلاف حين يصبح مطلقا, يكون حقلا لمجرد التصادم, وليس التصالح. وللغرابة, فإنه لم يكن الشيعة وحدهم هم الذين يرتفعون باختياراتهم السياسية إلي السماء, بل كان أهل السنة يمارسون علي هذا النحو أيضا. ولا يتعلق الأمر فقط بما قام به عثمان بن عفان حين تعالي بسلطته إلي السماء معتبرا أنها' قميص ألبسه الله له', بل وحتي بما صار إليه ابن تيمية; وهو أحد أكبر خصوم الشيعة من السلف. فإنه إذا كان الشيعة يؤسسون دعواهم علي أحقية الإمام' علي' بالإمامة علي ما يقولون أنه النص( الجلي أو الخفي) علي إمامته من جهة, وعلي ما تواتر عن فضله من جهة أخري, فإن ابن تيمية لا يفعل إلا أن يحشد ما لا حصر له من النصوص الدالة علي تفضيل أبي بكر وعمر وعثمان علي' علي' من جهة, بل ويمضي إلي تفصيل النصوص الدالة علي إمامة أبي بكر من جهة أخري. فقد مضي في منهاج السنة النبوية إلي إن' كثيرا من أهل السنة يقولون: إن خلافته( يعني أبا بكر) ثبتت بالنص, وهم يستندون في ذلك إلي أحاديث معروفة صحيحة. ولا ريب أن قول هؤلاء أوجه من قول من يقول: إن خلافة علي أو العباس ثبتت بالنص, فإن هؤلاء( الشيعة) ليس معهم إلا الكذب والبهتان, الذي يعلم بطلانه بالضرورة كل من كان عارفا بأحوال الإسلام'; وبما يعنيه ذلك من أن ابن تيمية( السلفي) لا يفعل إلا ما يفعله الشيعة من الارتفاع بأصل السلطة إلي السماء أيضا. وفقط فإنه يجعل ذلك لأبي بكر, في مقابل ما يفعله الشيعة من جعلها كذلك للإمام' علي'; وبما يعنيه ذلك أن الخلاف بين السلف والشيعة, ليس خلاف' تناقض', بل خلاف' تنافس'.
وبالطبع فإن ذلك يحيل إلي أن السبيل إلي رفع الخلاف السني الشيعي وتسويته, يكون في النزول به من السماء إلي الأرض. لابد إذن- وفي كلمة واحدة- من الرجوع بما أصبح من قبيل' المعتقدات' الإيمانية إلي كونه مجرد تعبير عن مواقف و'تحيزات' سياسية. ولسوء الحظ فإن الكثير مما يتعامل معه المسلمون كمعتقدات إيمانية هو, في جوهره, محض غطاء لمواقف وتحيزات سياسية.
وضمن سياق التنزل بهذا الخلاف إلي أصله في الأرض, فإن المرء سوف يكتشف أن الجذر الواقعي لهذا الخلاف بين السنة والشيعة لم يكن مجرد خلافات السياسة وحدها, بل كان أيضا تصارعات القبيلة, أو حتي تناقضات العشائر داخل القبيلة الواحدة. ولعل ذلك ما يقطع به كتاب المقريزي' في النزاع والتخاصم بين بني هاشم وبني أمية'; الذي يري للصراع, الذي خرجت من أحشائه فتنة السنة والشيعة, أصولا تسبق ظهور الإسلام ذاته.