شفيق ناظم الغبرا

الساحة الكويتية أكبر مما نرى بالرغم من عدد السكان (مليون ومئتي ألف مواطن كويتي)، ففيها حركة سياسية متنوعة تتشكل من تيارات مختلفة وحركات شبابية يقظة تزداد عمقاً بينما تمر هذه الحركات بتعرجات وبحالات هبوط وصعود. وتمثل الكويت بامتياز حالة خاصة ضمن أوضاع الحكم في منطقة الخليج، وذلك لأنها تتمتع بهامش من الحرية تميزت به عن غيرها في ظل تفاعل مع أسرة حاكمة لم يعرف عنها التعسف والمبالغة في الاستفراد. لكن المأزق الراهن مرتبط بسلسلة من التغيرات التي أحاطت بالكويت في العقد الماضي. فلقد تركت آليات التغير الاجتماعي والسياسي والثقافي آثارها على المجتمع الكويتي، فالتعليم والتكاثر السكاني وآثار العولمة والتواصل الاجتماعي ساهمت بصورة مجتمعة في نشوء قوى جديدة تتكون من الشباب وحراكاتهم، كما ساهمت في الوقت نفسه في نشوء تطور نوعي في الدور السياسي لأبناء القبائل. إن الفئات التي لم تكن تجاهر في السابق بحقوق واضحة أصبحت أكثر إصرارا على نيل الاعتراف بهذه الحقوق، وهذا يشمل الشباب وأبناء القبائل والطائفة الشيعية والمرأة وفئات مهنية وتجارية وجماعات سياسية مختلفة.

لهذا، فإن ما اعتبر مناسباً ومقبولاً في ستينات القرن العشرين لم يعد مناسباً في ٢٠١٣، وذلك لأن التغيرات في بنى المجتمع الكويتي الاجتماعية والتعليمية لم تجد لها تعبيراً موازياً في الهرم السياسي الذي يدير البلاد، كما أن السلطة السياسية لم تقدم حتى اللحظة حلاًّ لما يتعلق بسوء الإدارة وترهلها ولمأزق الفساد وتزايده، وهي لا تزال كسلطة سياسية، تميل للتعامل مع من تعتبرهم أهل الولاء على حساب أهل الكفاءة والوضوح. لقد تغيرت الكويت وتغير مجتمعها، ولهذا فهي بالتحديد تمر بمرحلة انتقالية مليئة بالتجاذبات والمخاوف.

إن ما وقع في الكويت في الشهور السبعة الماضية وذلك بعد سلسلة حكومات (منذ ٢٠٠٦) لم تعمر أي منها سوى لفترات قصيرة وبعد عدة برلمانات لم يستمر أي منها إلا لفترات محددة منذ عام ١٩٩٩، هو انبثاق حركة شعبية سياسية اجتماعية وطنية تحمل مطالب محددة هدفها إصلاحات سياسية وإدارية تحافظ على جوهر النظام السياسي الأميري بينما تطوره باتجاه حريات أكثر وضوحاً ونظام انتخابي أكثر تمثيلاً لقوى المجتمع، وأحزاب سياسية تسعى لطرح برامج (لا يوجد قانون أحزاب سياسية في الكويت) وشراكة أكثر نضجاً في الشأن العام.

لقد جاءت الاحتجاجات على شكل مواجهة سياسية سلمية مع النظام الانتخابي الذي فرضته السلطة التنفيذية عبر مرسوم أميري في تشرين الاول (أكتوبر) ٢٠١٢، إذ شعرت فئات واسعة من السكان أن الصوت الواحد استفراد في صنع القانون الانتخابي. لهذا تحول الرفض والاحتجاج إلى الشارع الذي حشد عشرات الألوف بهدف الضغط على السلطة السياسية للتراجع عن قرار الصوت الواحد. وقد قامت في الوقت عينه حركة مقاطعة كبيرة خفضت نسبة المشاركة في الانتخابات في الأول من كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٢ إلى نسبة ٣٨٪ من مجموع الناخبين.

لقد شهدت الكويت، إذن، ومنذ شهر تشرين الأول ٢٠١٢ حشوداً وتظاهرات لم تعرف لها مثيلاً في تاريخها، فقد حصلت تجمعات مرخصة وغير مرخصة شملت عشرات الألوف من المشاركين والمتظاهرين، ونتجت عن هذه التحركات ملاحقات سياسية وأمنية وأحكام بالسجن وأخرى بالبراءة لعشرات النشطاء والمغردين في التيارات الشبابية والشعبية وفي صفوف بعض أعضاء النواب السابقين. وفي هذه التجربة بدأت الحركات الشبابية الكويتية تكتنز خبرات جديدة في العمل السلمي وفي التنظيم والتأطير، وهذا يشكل بداية بروز شرائح سياسية جديدة وتجمعات سياسية جوهرها شبابي ومستقبلي.

وعلى رغم كل ما حصل من تظاهرات وتجمعات وتعبيرات احتجاجية، إلا أنها لم تؤثر على قرارات النظام السياسي، الذي تمسك بموقفه وبالصوت الواحد. لكن قضية النظام الانتخابي والصوت الواحد انتقلت إلى المحكمة الدستورية التي ستعطي رأيها في الأمر يوم ١٦ من الشهر الجاري. ورغم قيمة قرار المحكمة الدستورية القادم حول المرسوم، إلا أن المشكلة السياسية أصبحت أكثر عمقاً لأنها تتعلق الآن بتطوير أجندة كويتية للإصلاح، وما الصراع حول المرسوم إلا شكل من أشكال الاختلاف على هذه الأجندة. لقد شكل الحدث السياسي الكويتي من كل جوانبه إنذاراً أولياً لمدى أهمية الالتفات بوضوح إلى إصلاح النظام السياسي وتطويره.

يتعمق النقاش في الكويت عبر المنابر وحوارات التغير الشبابية وعبر شبكات التواصل الاجتماعي بهدف إعادة النظر في العلاقة بين الدستور الكويتي والتطبيق القانوني، وبين قادة البلاد والشعب، وبين الأسرة الحاكمة والمجتمع، وبين الفساد والإدارة، وبين السلطات وفصلها ومحاسبتها، وبين الشيعة والسنّة والقبائل والحضر، بل وداخل الأسرة الحاكمة نفسها. وأتساءل أمام ذلك: ما الذي لم يناقشه الكويتيون حول أوضاعهم وقضاياهم الحساسة وغير الحساسة في الشهور الماضية؟ وأجد أنهم، وفي ظل مجتمع مدني ناهض، لم يتركوا أمراً إلا وطرحوه، بما في ذلك آفاق تعديل الدستور الكويتي لمزيد من الديموقراطية (هناك نص في الدستور يجيز التعديل بشرط موافقة ثلثي المجلس والأمير لصالح مزيد من الديموقراطية).

ويتبلور التصور في الكويت باتجاه الإصلاح الذي يطور الحكومات إلى حكومة برلمانية تنتج عن تنافس حزبي. إن المزيد من الناس في الكويت يميلون لهذه الفكرة التي كانت مرفوضة من قبل أغلبية السكان والنواب السابقين حتى الأمس القريب، فالرأي يزداد ميلاً لصالح اختيار الأمير لرئيس الوزراء من الأغلبية الحزبية في برلمان منتخب. والرأي يتبلور ببطء نحو فوائد النظام البرلماني وضرورة توافر برنامج واضح يطرح أمام الشعب في ظل حملة انتخابية شفافة.

ومن الخطأ الانطلاق من أن الحكومة البرلمانية هي تقويض للنظام الأميري، فالمجتمع الكويتي بما في ذلك الحركات الشبابية تجمع على مكانة الأسرة الحاكمة، وهي تحمل قناعة عميقة بالنظام السياسي الدستوري الكويتي، لكنها ترى أن المواءمة بين الديموقراطية الحقة (الأمة مصدر السلطات) ومكانة الأسرة ودورها الموثق في الدستور أمر ممكن التحقيق، كما يوجد لدى قطاع من المواطنين وخاصة في الأوساط الشابة قناعة بأن السلطات السياسية طبقت الدستور على مر العقود والسنوات بتردد واستحياء، وأنه آن الأوان لتطبيق واضح ولتنقيح كل قانون يتناقض مع نصوص الدستور.

ويزداد المجتمع الكويتي وعياً بأن الوصول إلى شراكة حقة بين مكونات البلاد لن يحصل بين يوم وليلة، لهذا تزداد المطالبة بتوفير خريطة طريق تؤدي لفتح المساحة السياسية لصالح حريات أوسع ومشاركة تؤدي إلى ديموقراطية أشمل. إن السير نحو المناصفة السياسية سيعزز حماية حقوق الفرد والأقليات بشرط أن يرافق ذلك تطوير واضح لاستقلال النظام القضائي وضمان قدرة الأفراد على المرافعة أمام القضاء في حالة وقوع تعسف من قبل أغلبية برلمانية أو من قبل سلطة تنفيذية.

في هذه المرحلة الحساسة تمر الكويت بما يمكن تصنيفه على أنه ثورة دستورية، فكل المجتمع يتأثر ويتحول: من ساند الحكومة ومن عارضها، من وقف مع الصوت الواحد ومن وقف مع الأربعة أصوات، فما يقع اليوم في الكويت يكتسب معانيه من قدرته على تحريك النقاش والوعي السياسي بين فئات كبيرة هي كل أطياف المجتمع الكويتي: أسرة حاكمة وشعب، معارضة وسلطة، شيعة وسنّة، قبائل وحضر، فقراء وأغنياء. فالكل يتناقش مع الكل، والسياسة دخلت كل بيت. إن التسيس الراهن سيجعل من قدرة السلطة السياسية على قيادة المجتمع أشد صعوبة من الماضي، لهذا سوف تتطلب الوسيلة الوحيدة لمخاطبة الشعب الكويتي ولحماية الاستقرار، عقلنة الممارسة السياسية وإطلاق مزيد من الحريات وتطوير المضمون الديموقراطي للبلاد.