رشيد الخيّون


عندما تتحدث مع الإسلاميين، المتطلعين إلى السُّلطة، يأتيك بالتجربة التركية ونجاحها بالمجارات السلسة التي جرت بين الإسلام السياسي والديمقراطية هناك برهاناً. وربما صارت هذه التجربة دافعاً للغرب وأميركا في دعم ما عبروا عنه بالإسلام السياسي المعتدل، على أساس أن laquo;الإخوان المسلمينraquo; الأتراك استفادوا من مدنية بلادهم وانفتاحها الاجتماعي وسيؤثرون في غيرهم، وبالفعل بدأ الإسلاميون الأتراك يقدمون النصائح!

فمصطفى كمال أتاتورك (ت 1938) أسس علمانية شديدة (أي فصل الدين عن الدولة)، ونقل خلالها تركيا إلى مصاف الدول الحديثة، دون أن تفقد إسلامها المعتدل أو الوسطي، مع عدم إنكار الضغط غير المبرر على المجتمع في قضايا الحجاب ومظاهر التدين غير السياسية لمحاولة التخلص من التركة العثمانية. ساعده في إبعاد الدين عن السلطة تاريخ السلطنة وهيمنة المشيخة الدينية، وهذه الردة القوية حضرت قبل أتاتورك في انقلاب الاتحاد والترقي عام 1908، عندما حولوا الخلافة إلى دستورية، فاستبدل الطربوش بالعمامة.

حكى عضو laquo;مجلس المبعوثانraquo; معروف الرصافي (ت 1945) قصة خلعه عمامته وهو بإسطنبول تحت التهديد، قال: laquo;كنت أرتدي لباسي المألوف، وهو العمامة والجبة والزبون، وبمناسبة البرد كنت لابساً فوق الجبة عباءة صفراء مارين، فلما دخلت المقهى لم أجد أحداً فيه، وبرز لي في غرفة الوجاغ (الموقد) صاحب المقهى السوري، فلما شاهدني بالعمامة ارتعب ومرّ بقربي وهو يقول: اخلع عمامتك يا رجل لا تبليني! وذهب فتركت المقهى وتوجهتُ إلى الباب العالي وما سرتُ كثيراً، حتى أحاط بيَّ الجند من كل جانب وهم يقولون بالتركية: يا عدو اللهraquo; (الرصافي، يروي سيرة حياته)، بعدها اشترى بذلة (سترة وبنطلوناً). كان ذلك آخر عهد له مع عمامته.

ذلك شاهد على حدة الانقلابات، وشدة ردود الأفعال، وما يحصل الآن في ظل سطوة جماعات الإسلام السياسي، بعد ما سمِّي بـlaquo;الربيع العربيraquo;، مشابه لما حصل قبل أكثر من قرن لكن معكوساً. بعدها انطلقت تركيا بقوة نحو المدنية، فمنع كل ما يشير إلى الفترة السابقة، ومنها استبدال الأبجدية من الحروف العربية (مثل الفارسية والكردية حالياً) إلى الحروف الغربية، وبهذا انقطعت الأجيال عن الفترة العثمانية وصراعات الماضي وضغائنه، من نزاع فقهي أو ديني، وصار الطربوش غطاءَ الرأس الرسمي، وأخذت النساء لا يتقيدنَ بالحجاب الديني، ودخلنَ إلى التعليم وشاركن بإدارة البلاد، وتعلق القانون الثامن من قوانين الثورة الأتاتوركية (1923) بالزي مثل اعتمار القبعة بدلا عن الطربوش (نور الدين، حجاب وحراب).

هناك من حاول تقليد تجربة أتاتورك في إشاعة المدنية وتحييد فقهاء الدين، مثل الشاه رضا بهلوي (ت 1944)، فقيل فرض laquo;خلع الحجاب على نساء وتغيير ملابس الرجالraquo; (نفسه)، بارتداء الزي الأوروبي مع ربطة العنق. ويبدو أن الحكومة الإسلامية تعاملت بردة فعل قوية ضد الشاه الأب، فحولت ضريحه إلى دورة مياه عامة، من دون الأخذ بنظر الاعتبار حرمة الموت، وأصدرت أوامر بحرمة ارتداء ربطة العنق. هناك من يقول: لم تصدر فتوى بحرمتها! لكن كيف يتفق أن الجميع التزموا بحرمتها عفوياً؟ ولولا الشاه المذكور لكانت الأحواز إما جزءاً من العراق أو إمارة مستقلة، وهي أم النفط بالنسبة لإيران، وما كانت الثورة الإيرانية تلاقي النجاح لولا فتوى مرجع المنطقة الشيخ محمد طاهر الخاقاني (ت 1985)، الذي يروى أنه أفتى لعمال النفط بعدم ضخه، فاضطربت إيران (أمالي السيد طالب الرفاعي)، وكانت واحدة من أسباب وصول الخميني إلى السلطة، لكن الخاقاني لاقى (الشكر) محجوزاً بقم حتى وفاته وكان ضريراً.

على أية حال، كلُّ ما حصل من قِبل أتاتورك أو رضا شاه ومِن ثم الخميني إلى ما يحصل الآن مِن قبل أردوجان هو ردود أفعال. صحيح أن عبارة laquo;الناس على دِين ملوكهمraquo; (ابن الطقطقي، الفخري) ليست خاطئة، لكن متابعة المَلك في فكره وعقيدته لا تكون حقيقية إذا أتت متعالية خارج التدرج، أو باتجاه معاكس للزمن والتقدم.

الأمر مختلف بتركيا فالإسلاميون كانوا ممنوعين لسنوات طويلة، مثلهم مثل بقية الأحزاب كالحزب الشيوعي التركي، ومعلوم أن شاعر هذا الحزب ناظم حكمت (ت 1963) كان قد ساهم مع أتاتورك في بناء الدولة المدنية، على أنقاض الخلافة العثمانية، إلا أنه سُجن في ما بعد، وفرَّ من البلاد. ثم جاءت الفرصة وانفتحت تركيا، ولم تعد المؤسسة العسكرية قلعةً حصينة للعلمانية، أو تُشكل خطراً، وبهذا صعد الإسلاميون ممثلين بـlaquo;حزب العدالة والتنميةraquo; إلى سدة الحكم، فاستنسخت فروع laquo;الإخوان المسلمينraquo; الأُخر الاسم.

يبدو أن احتفاظ دوائر الدولة التركية، وهي تحت سلطة الإسلاميين، بصورة أتاتورك ليست قناعة بما قام به هذا الرجل من دور في بناء تركيا الحديثة، إنما هي laquo;مكره أخاك لا بطلraquo;، والخوف لم يعد من المؤسسة العسكرية إنما من الشعب، الذي يعتبر قسم كبير منه ما تحقق من حريات اجتماعية منجزاً لا يفرط به، وبالتأكيد أن خطاب laquo;حزب العدالة والتنميةraquo; الذي تخلى عن طموحه في دولة دينية ساهم في فوزه فوزاً كاسحاً قبل عشر سنوات، لكن اتضحت ممارسات الحزب الأخيرة أن ذلك التخلي كان مؤقتاً.

في الشهر الماضي عقدت قناة laquo;الحرةraquo; ندوة على هامش المنتدى الاقتصادي بالعقبة، وكان أغلب المتحدثين من الإسلاميين، وبينهم أحد الأتراك، فأخذ يتحدث بفخر عن احتفاظ الناس بحرياتهم، وعدم التدخل في شأنهم، وهذا هو سر نجاح إسلاميي تركيا! على أن إسلامها السياسي شكل تجربة فريدة، وحزبهم حزب وطني ليس لديه أجندات دينية أو عقائدية! وما هي إلا أيام حتى أخذ أردوجان الغرور، وشرع بالانقلاب غير المستور ضد المدنية، واستبدال رموزها برموز إسلامية. وبفشله يفشل الإسلام السِّياسي ككل بعد الاشتباك الصريح مع الديمقراطية.

كان أردوجان يتوقع أن laquo;بالخبز وحده يحيا الإنسانraquo; (إنجيل متي)، وسنده في ما يريد تغليبه هو نجاحه الاقتصادي، لكن هذا لا يكفي الحياة لشعب أدمن الديمقراطية، والحرية لا تتجزأ، ويشرئب إلى الانتماء للاتحاد الأوروبي.

عموماً، الإسلاميون كانوا إلى عهد قريب يعتبرون الدِّيمقراطية كفراً، لأنها غربية النجار، ولم يقتربوا منها إلا بعد الضمان بأنها وسيلة الانقلاب ونجاح laquo;ربيعهمraquo;. لكن الاشتباك مع الديمقراطية لابد منه، لأنها لا تتسع للأسلمة!