محمد العطار

بث التلفزيون الرسمي السوري طيلة يوم 24 آب (أغسطس)، شريطاً مصوراً يُظهر اقتحام وحدات من الجيش النظامي laquo;وكراً للإرهابيينraquo; في حي جوبر الدمشقي. وفق الشريط، ضُبطت مواد تدل على تورط الإرهابيين في هجمات على مناطق في الغوطتين الشرقية والغربية صباح يوم 21 آب. الهجمات كما هو معروف أسفرت عن مجزرة مروعة ناجمة عن استخدام سلاح كيماوي (يعتقد على نطاق واسع أنه غاز السارين).

أكثر ما تم التركيز عليه في الشريط الإخباري المُكرر على رأس الساعة، هو ضبط براميل تحوي مواد كيماوية، كتب عليها بخط كبير جداً laquo;صنع في السعوديةraquo;! لم يُحفر ختم بلد المنشأ بخط دقيق في مكان جانبي، كما لم يُطبع على قاعدة البرميل، وإنما شغل الخط مكاناً متوسطاً وكبيراً على هيكل البرميل.

قبع البرميل في وكرٍ بائس، احتوى أدوات شبه بدائية وقنابل يدوية وأكياس بلاستيك وبعض الإبر، وهي معدّات استخدمها إرهابيون وفق رواية تلفزيون النظام، لكن ليقوموا بماذا؟ لم يقصفوا قوات النظام! ولا حتى المناطق التي يسيطر عليها! بل استخدموها لقصف المناطق المتمردة عليه، المناطق التي يتمتع فيها هؤلاء الإرهابيون بالذات بحاضن شعبي. قصف الإرهابيون أنفسهم تقريباً!!

في فقه بروباغندا النظام، لم يكن ممكناً لختم بلد التصنيع على البرميل إلا أن يكون بمثل هذا الحجم، كما لم يكن ممكناً من قبل أن تكون أكياس حبوب الهلوسة التي توزع على المتظاهرين إلا أن تكون مختومة بشعار قناة laquo;الجزيرةraquo; القطرية. على عكس السائد، لا تبدو هذه الصور ساذجة أو قائمة على تلفيق ركيك.

ينساق التحليل الدارج عموماً لبروباغندا النظام، إلى فضحها بوصفها قائمة على سيناريوات هزيلة، وبالتالي محاولة تفكيكها عبر تعرية هذه الركاكة بوصفها دعاية تستند إلى أكاذيب هشة. أعتقد أن هذا التحليل يقودنا إلى طرح الأسئلة الخاطئة.

إلى ماذا تسعى هذه البروباغندا أصلاً؟ كيف تُبنى؟ ولمن توجه رسائلها؟

لا يكترث شريط إخباري على القناة السورية الرسمية، يبث صورة برميل يتوسطه ختم هائل الحجم لبلد التصنيع laquo;السعوديةraquo;، لإقناع أي أحد بصدق هذه الرواية. وقبل ذلك روايات مُماثلة من قبيل حبوب الهلوسة، وقتل المتظاهرين أنفسهم لإدانة قوات الأمن، وغيرها. يُدرك النظام، أنه يخاطب قسمين من السوريين، ومن وراءهم عالم منقسم أيضاً حول رحيله.

القسم الأول هم مريدوه، أو من سلّموا له (خوفاً أم لمصلحة). هؤلاء يصدقون كل ما يقوله، بالأحرى يريدون تصديق كل سردياته مهما بلغ شططها. لا يدخر النظام جهداً في امتهان عقول هؤلاء بالذات، وفي امتحان خضوع مداركهم الفكرية لسطوة روايته. لا يهم حقاً إن صدقوه في قرارة أنفسهم، المهم أن يصدقوه علانيةً، بل وأن يعيدوا تكرار الرواية نفسها. توغل بروباغندا النظام في الاستخفاف بعقول هؤلاء، ومحاكماتهم المنطقية، وهي حين تفعل ذلك، تفعله قاصدة، متعمدةً في كل مرة اختبار سطوة روايتها وإخلاص تصديقهم laquo;العلنيraquo; لها. الأمر على ما تذهب إليه ليزا وادين في كتابها laquo;السيطرة الغامضةraquo;، يقوم على ما اصطلحت على تسميته laquo;استراتيجية قائمة على المطاوعة بدل الشرعيةraquo;، الفكرة التي تنطلق منها وادين لتفسر كيف أن النظام الأسدي لم يكن معنياً حقاً بأن يصدق محكوموه البروباغندا التي أنتجها في شكل غزير لتدعيم سطوته (تسميات، خطابات، أناشيد، مهرجانات... إلخ). كان الجميع يعلم أن السوريين لم يصدقوا حقاً أن الأسد هو laquo;الرياضي الأولraquo; و laquo;الصيدلاني الأولraquo;. لكن اهتمام النظام انصبّ على أن يتصرف السوريون كما لو أنهم يصدقون.

يحدث في سورية الثورة، أن قسماً كبيراً من السوريين أعلن القطيعة مع laquo;ادعاء التصديقraquo; المقيت هذا. ويحدث أيضاً أن يمتد هذا الانقسام ليشمل جمهوراً عريضاً عبر العالم، بين من يماشي بروباغندا النظام لأنه غير راغب برحيله، لشتى الأسباب، وبين من يناصر غالبية ممن أشهروا أخيراً laquo;تكذبيهم العلنيraquo; لجملة هذه السرديات المُلفقة.

وجدت بروباغندا النظام لنفسها أسواقاً خارجية لم تكن بخيلة في الإصغاء. وإن كانت هذه البروباغندا ما زالت وفيّة لنهجها الأوحد في امتهان عقول محكوميها في الداخل، والتحقق على الدوام من أنهم يصدقون أي شيء وكل شيء، فإنها تعامل جمهورها في الخارج (من غير السوريين) بندية أكبر تقوم على مبدأ laquo;السلعة المرغوبةraquo;. فهي تقدم كل ما يريد هؤلاء تصديقه، وكل ما يتناسب مع عدتهم الفكرية، أو انتمائهم السياسي، أو المذهبي، وفي كثير من الأحيان أفكارهم المسبقة وصورهم النمطية، وفي بعض الأحيان ما يناسب ذرائع تخاذلهم أو إحجامهم. فصورة البرميل الكيماوي الذي ضُبط في وكر مسلحين معاديين للنظام، يستخدمونه لإبادة مناطق حاضنة لهم بالذات! مع ختم كبيرٍ laquo;صنع في السعوديةraquo; يحتل نصف واجهة البرميل تقريباً. هي صورة لا تخضع عند عموم هؤلاء لمحاكمات مستندة إلى قراءة الواقع العياني ومعرفة تفاصيله، بقدر ما هي محكومة بجملة العوامل السابقة. هذه صورة مقبولة اليوم لمواطن لبناني، وآخر تونسي، وآخر يعيش في البرازيل أو الفاتيكان أو أميركا أو... الخ. وهي تناسب سرديات مُتبناة أصلاً، كلٌ وفق موقعه من الحدث السوري. فهي تشديد على مؤامرة تقودها الوهابية الظلامية، أو جرائم يقترفها التكفيريون الكارهون للأقليات، أو مسلحون مرتبطون بمخطط أميركي- إسرائيلي لزعزعة محور الممانعة، بتمويل سعودي سخي كالعادة. تقوم بروباغندا النظام هنا، وبجهود بسيطة، بتقديم جل ما يريده جمهورها في الخارج، وما يطلبه أيضاً! وفق الباحثة الألمانية بنتة شيللر إنها عملية laquo;تسويقraquo; لجمهور راغب أصلاً بهذه السلعة.

لكن ماذا تفعل بروباغندا النظام مع القسم الآخر من السوريين، هؤلاء الذين خرجوا عن الطاعة؟ لا شيء في الحقيقة، فوظيفتها الوحيدة في الداخل كانت في تعزيز سطوة الطاغية. لم تكن هذه البروباغندا يوماً معنية باستمالة أو إقناع من يشهر تمرده. كانت السجون وأقبية التعذيب كفيلة برده إلى جانب الصواب، ليخرج ndash; إن خرج ndash; مؤهلاً أكثر من أي وقت مضى للعب دور المُصدق. اليوم بعد أن شبّ السوريون عن الطوق، ولم تعد أساليب الإخضاع القديمة نافعة، تخاطب البروباغندا هؤلاء بأقل قدر من المرونة، وبأكبر قدر من الأكاذيب الفجة والمُهينة، laquo;مندسين، مخربين، يتظاهرون ابتهاجاً بالمطر، أو لقاء مبالغ مالية زهيدة، يطلقون الرصاص على أنفسهم، يرشون ماء يسبب الهلوسة أو يتناولون حبوباً للغرض نفسه، إرهابيون، عراعير، يستخدمون الكيماوي ضد أهلهمraquo;!! ثم ماذا؟ تتعمد بروباغندا النظام أن تقول لهؤلاء: laquo;سأسحقكم طالما استطعت، وبأقل قدر ممكن من التجميل في الصورة المرافقة لذلكraquo;. بينما تقول لمناصريهم عبر العالم: laquo;إن اتهامكم لي بالكذب لن يوقفني عن سحق هؤلاء، فماذا أنتم فاعلين؟ يعرف النظام أن أصحاب القرار الفعلي ليسوا بصدد فعل الكثيرraquo;. التعاطف والتضامن الكلامي مع معاناة الناس ومشروعية مطالبهم، أمور اعتاد النظام السوري أن يتجاهلها جيداً. في الحقيقة هي آخر ما يقلقه.