مالمو (السويد) - فيكي حبيب

هي مصر الكوزموبوليتية تلك التي يبحث عنها أمير رمسيس في فيلمه الوثائقي laquo;عن يهود مصرraquo;. مصر التعددية مقابل مصر اللون الواحد. مصر المنفتحة على العالم مقابل مصر المنغلقة على نفسها. مصر الثلاثينات والأربعينات مقابل مصر الألفية الجديدة.

هي رحلة بحث عن وطن لا عن يهوده فحسب، حتى وإن كان الفيلم مشغولاً بهم على امتداد دقائقه الـ95.

شهادات كثيرة قالت أجمل الكلمات في حب مصر... وجوه عادت إلى زمن ولّى. تذكّرت وتمنعت. ضحكت وأدمعت. ومع هذا يبقى عيبها الوحيد أنها يهودية. عيب؟ قد يكون كذلك بالنسبة إلى كثيرين. أما أمير رمسيس فله رأي آخر عبّر عنه لـ laquo;الحياةraquo; في هذه المقابلة التي أجريناها في مهرجان مالمو حيث فاز فيلمه بجائزة أفضل فيلم وثائقي مناصفة مع فيلم laquo;لاraquo;.

gt; يبدو الحديث عن يهود مصر في توقيته متلازماً والخوف على الأقليات في المنطقة مع صعود التيارات المتشددة. ماذا أردت القول بالعودة إلى هذه المرحلة؟

- لم يكن الفيلم وليد تداعيات الأحداث الأخيرة، بل إن فكرته تعود لعام 2004، أما العمل عليه فبدأ في 2008. مع هذا، لا يمكن فصله عما يحدث، ليس بالنسبة إلى الأقليات فحسب، بل بالنسبة إلى صورة الهوية المصرية التي تحاول مجموعة من البشر حصرها في الإطار الضيق. شعرت بأن تاريخ مصر في الثلاثينات والأربعينات قد يكون نافذة جيدة لننظر من خلالها إلى أين نحن ذاهبون. ففي تلك المرحلة كانت مصر تحتضن المسلم والمسيحي واليهودي جنباً إلى جنب من دون أن يُسأل أحدهم عن ديانته... حتى الجنسيات الأخرى (يونانيون وإيطاليون) دخلت في النسيج المصري عاكسة الحالة الكوزموبوليتية المتسامحة. وهذه الحالة شكّلت نافذتي للنظر إلى الحاضر، من دون أن تكون للأمر علاقة بزيادة الشحن ضد الأقليات بعد ثورات laquo;الربيع العربيraquo;. ففي عام 2004 وحين كنت أعمل مع يوسف شاهين على فيلم laquo;إسكندرية نيويوركraquo;، تعرفت إلى شخصية هنري كوريل (أحد مؤسسي الحزب الشيوعي المصري) ووجدتها صالحة لمشروع فيلم روائي بعدما أثرت فيّ في شكل كبير، حتى أنني اليوم أعلّق صورته في مكتبي إلى جانب صورة شاهين. ومن يعرف ماذا يعني لي شاهين يدرك الأثر الذي تركه فيّ كوريل. وسرعان ما تخليت عن المشروع الروائي، واقتنعت بأن الموضوع في حاجة إلى أسلوب مباشر وجدلي أكثر من أن يتحمله فيلم من هذا النوع. ولو افترضنا أن للفيلم رسالة، علماً أنني لا أحب استخدام هذه الكلمة، فسيرة كوريل والطريقة التي عاش بها هي الرسالة.

حب مصر

gt; شخصيات الفيلم اليهودية تنحو جميعها باتجاه حب مصر. لماذا لم يتضمن عملك نماذج أخرى؟ وماذا عن التوجه الواضح فيه؟

- لا أستطيع أن أقول إنه لم يكن لدي توجه. نعم، هناك توجه مباشر في الفيلم. ففي النهاية هؤلاء هم من أتكلم عنهم، وهؤلاء هم من تعلّق قلبي بهم وأنا أشتغل على الفيلم. ولكن، بين النماذج التي لم أستخدمها، إما لضرورات الوقت وإما لكوني لم أحظ بفرصة تصويرها، لم يكن هناك حالات مختلفة جداً في الموقف، سواء كانت لديها نوستالجيا أم لا. لم أجد واحداً لديه كراهية للبلد. صحيح أن بعض الشخصيات كان لديها موقف عدائي أكثر من آخرين مثل أندريه حزام، لكنّ الزمن غلّب الحنين على فكرة كراهية الواقع الذي عاشوه.

gt; ألم تخف من تهمة التعاطف مع اليهود، خصوصاً أن كثيرين في عالمنا العربي لا يميزون بين اليهودية والصهيونية؟

- لا يمكن القول إنني كنت خائفاً من الموضوع، بل كنت مستوعباً الأمر كونه جزءاً من أزمة الفيلم ذاتها، أي التعامل مع اليهود جميعاً على أنهم أعداء بالقطع. فيلمي هو عن هذا الخلط الحاصل عندنا ولا يمكن القول إنه أخافني. أما التعاطف فنعم، أنا متعاطف مع يهود مصر وإلا لما كنت صنعت فيلماً عنهم.

باختصار، لست ذاك المخرج المنظر المحايد الذي يحاول أن ينظر إلى الفيلم من بعيد. وعندما قررت تناول موضوع يهود مصر لم أكن محايداً، بل كنت كوّنت موقفاً بعدما استمعت إلى شهادات أناس عاشوا تلك المرحلة وقرأت الكثير عنهم. وبالتالي كنت متعاطفاً معهم، لهذا أقول إذا كان التعاطف تهمة، فأنا متهم بها.

gt; يسير فيلمك في خط واحد تقريباً وعدداً من أفلام الشباب في مصر التي لامست مشكلة الأقليات. هل هناك موجة سينمائية اليوم ضد سياسة عدم التسامح وقبول الآخر؟

- من دون أدنى شك، جميعنا مأزومون. ولا علاقة للأمر بما حدث في السنتين الماضيتين فحسب، بل يعود الأمر إلى 10 أو 15 سنة إلى الوراء مع علو الصوت الطائفي في مصر. وعندما أقول صوت طائفي ديني فهذا موجود على مستوى لفظ الآخر عموماً. ففي مصر أزمة تتعلق بعلاقتنا بالآخر أياً كان، ثقافياً ودينياً وفكرياً وسياسياً. لهذا، هناك حالة في السينما من الدفاع المضاد ضد هذا الاتجاه الفكري. وأرى أن جيلنا هو أول من بدأ يتكلم فنياً (سينمائياً وأدبياً) عن مساوئ ثورة 52 بعيداً من الهالة الإعلامية التي كانت تنكر الجوانب السلبية لتلك المرحلة.

gt; هل تؤمن بقدرة الفنون على تغيير الذهنيات؟

- لا أحب استخدام كلام عام، ولكن قياساً على تجربتي، لمست أن فيلم laquo;عن يهود مصرraquo; غيّر في وعي أشخاص من جيل الستينات القومي ممن يناصرون التجربة الناصرية حتى النهاية وترسبت لديهم مفاهيم خطأ حول كلمة اليهود. ففي الندوات التي كانت تتلو عرض الفيلم، كان هناك اعتراف بهذا الأمر، وكثيرون كانوا يقولون لي إن الفيلم ساعدهم في إعادة تقويم تلك المرحلة.

بساطة متعمّدة

gt; هل تعمدت اختيار الشكل البسيط لموضوع حساس مثل ذاك الذي طرحته في الفيلم؟

- نعم، تعمدت أن يكون الفيلم بسيطاً زيادة عن اللزوم نظراً إلى كوني أعرف سلفاً أن الموضوع سيُهاجم. وعلى رغم أن الشكل لا يحمل أكثر من الوقائع، كان هناك هجوم ضده من تيارات معينة. تعمدت أن أبني الفيلم على الحقائق ولا شيء إلا الحقائق. أردت أن تكون المعلومات وترتيبها الزمني من طريق المونتاج سلاحي الوحيد. قلت هذه هي الحقيقة كما هي. هذا هو الترتيب الزمني للأحداث كما أراه. لم ألعب في شيء ولم أستخدم أي جانب روائي. استخدمت الأدوات السينمائية الأساسية فحسب. وطرحت السؤال على المتفرج: هل أنت عنصري في داخلك أو عندك خلط؟ هل أنت ضد اليهود أو ضد تيار سياسي؟ إنه الشكل الأنسب للفيلم، إذ يجعل المتفرج في مواجهة بينه وبين نفسه.

gt; يُفهم من حديثك أن المضمون غلب الشكل؟

- بالضبط، وهذا كان سبب اختياري الشكل التسجيلي عندما قررت تأجيل مشروعي الروائي عن هنري كوريل. هو فيلم يحمل رسالة في النهاية (أعود وأقول على رغم كرهي لهذه الكلمة). وقررت أن ينتصر فيلمي للرسالة بدل فرد العضلات.

gt; حدثنا عن المعاناة مع أجهزة الأمن ومحاولات منع الفيلم.

- ما حدث معي كان عبثياً جداً. فعندما بدأت العمل على الفيلم وعلى رغم أنني لم أكن في حاجة إلى تصريح تصوير، قررت أن أدخل في عناد مع الرقابة بأن أطرح المشروع عليهم. وبعد شهور من المفاوضات حصلت على التصريح. وحين انتهينا اختير الفيلم للعرض في القاهرة في بانوراما الفيلم الأوروبي الذي يحتفي بفيلم مصري سنوياً. قدمنا الفيلم على الرقابة وكانت المفاجأة أنه قُبل من دون أية ملاحظة. وبهذا اعتبرت أن مشاكلي معها انتهت. ولكن، ما إن عرض الفيلم حتى أثار ضجة إعلامية في مصر، تلتها ملاحقات هاتفية لي من وزير الثقافة. عندما قابلته كانت هناك اتهامات موجهة لي حول أنني عرضت الفيلم من دون موافقة الرقابة، وعندما أشهرت التصريح، قال لي أحد رجال مكتب الوزير إنه أُعطي لي على أساس أن الفيلم أجنبي. هذا الجواب جاء كالصاعقة على مسمعي، فكيف لفيلم يحمل اسم مصر في التصريح، أن يكون فيلماً أجنبياً؟ وكان جوابي حينها ساخراً، إذ قلت لهم: على حد علمي، نحن لا نزال نحكم من جمهورية مصر العربية، ومصر ليست دولة أجنبية، فإن كنتم غير متنبهين، فهذه مشكلة. بعدها جال الفيلم في المهرجانات، وكنا نأخذ فوراً تصريح تصدير بما أن الموافقة موجودة سلفاً.

gt; واجهتم مماطلة كبيرة قبل العرض التجاري. لماذا؟

- صحيح، عادت المشكلة عندما أتيحت لنا فرصة التوزيع التجاري، إذ فوجئنا ليلة العرض بأن رئيس الرقابة غير قادر على منحنا التصريح على رغم إدراكه بأنه حق لنا. وعرفنا أن جهاز الأمن الوطني أراد منع الفيلم في خرق واضح للقوانين المصرية، وأن نسخة وزارة الثقافة سُلّمت للأمن الوطني. وتفاجأنا أن موظفاً في وزارة الثقافة تابع للأمن الوطني مسؤول عن مراقبة الفن والثقافة في مصر. دخلنا في صراع إعلامي وقانوني. وتحركنا لرفع قضية مشتركة مؤلفة منا كشركة منتجة للفيلم، ومن نقابة السينمائيين التي دخلت طرفاً معنا ضد وزارة الثقافة. وهذا ما زاد الأمر اشتعالاً، خصوصاً أن في مصر حكماً قانونياً سابقاً يقول ان ليس من حق أي جهة أمنية التدخل في أعمال الرقابة بعد قضية laquo;المشير والرئيسraquo; لممدوح الليثي وخالد يوسف. يومها أرادت وزارة الدفاع منع الفيلم، لكن المحكمة الدستورية قررت أن الرقابة على المصنفات الفنية هي الجهة الوحيدة المخولة قبول أي فيلم سينمائي أو رفضه. ومع حالة الضغط هذه، ابتدأت المفاوضات من جانبهم. وبدأت الرسائل تصلنا، بأننا سنحصل على التصريح في حال تكتمنا عن ممارسات الأمن الوطني، وتحديداً عن تجاوزات موظف وزارة الثقافة... واللافت بعدها أن رئيس الرقابة نفسه اعترف بالضغوط في برنامج تلفزيوني على الهواء...

gt; هل ينتمي أمير رمسيس إلى مدرسة يوسف شاهين السينمائية؟

- بالتأكيد، ليس فقط لكوني عملت مع شاهين خمس سنوات، وكنت مقرباً منه جداً، بل لأنني قررت أن أمتهن السينما بعدما شاهدت فيلمه laquo;إسكندرية كمان وكمانraquo;، وأنا في العاشرة من عمري.

gt; ماذا تعلمت من يوسف شاهين؟

- خلق شاهين عندي شغفاً تجاه هذه الصناعة. فقبل أن أعمل معه كنت أمرض نفسياً في شكل ما عندما أدخل صناعة فيلم، وكان الأمر أشبه بالمعركة. شاهين علمني أن أستمتع وأنا أصنع فيلمي. ويمكن القول إنني بعده صرت أقل مرضاً في موقع التصوير.