جميل مطر


عاد صحفيون ودبلوماسيون غربيون يستخدمون عبارة quot;رجل أوروبا المريضquot; عند تحليل حال تركيا في الشهور الأخيرة . هناك مبالغة لا شك فيها في تصوير الحال التركية الراهنة على هذا النحو، تماماً كما كانت هناك مبالغة في كتب التاريخ المدرسية التي صورت الإمبراطورية العثمانية في أواخر قرونها برجل أوروبا المريض، ففي المرحلتين لم تكن تركيا قد بلغت درجة من الوهن تستحق عليها هذه الصفة، وإنما كان واضحاً أن توسع الإمبراطورية في الحالة الأولى قد وصل إلى أقصى درجاته وبدأ ينحسر، وهو ما حدث في أعقاب معركة فيينا في منتصف القرن السابع عشر، عندما هزمت جيوش التحالف الأوروبي قوات الإمبراطورية العثمانية ودفعتها إلى وقف زحفها في القارة الأوروبية . أما الضعف الحقيقي للإمبراطورية فلم يتضح بجلاء إلا في القرن التاسع عشر عندما تفشى الفساد وانتصر التخلف السياسي الداخلي وتفاقمت خلافات القصر والسلطة وتمرد بعض الولاة ومنهم محمد علي باشا . تسبب انحسار القوة العثمانية في خيبة أمل إمبراطوريات غربية عولت على أن تكون تركيا قوية نوعاً ما لتوقف توسع قياصرة روسيا .


تطور مماثل حدث في السنوات الأخيرة، حين عولت أوروبا المعاصرة على نهوض تركيا الحديثة وتحديث قواتها العسكرية واضطراد نموها الاقتصادي لتلعب دوراً في الشرق الأوسط يحقق بعض الاستقرار ويضمن عدم انفلات دول الإقليم وتياراته المتشددة . مرة أخرى يخيب أمل الغرب وتفشل تركيا في أن تكون القوة الفاصلة أو الحلقة الرابطة بين الشرق الأوسط والقارة الأوروبية، وأن تقوم بدور quot;ضابط الحركةquot; في شبكة التفاعلات العربية خاصة وشرق الأوسطية عامة . من ناحية أرادت تركيا، على أيدي حكومة أرودغان، أن تثبت للغرب أنها quot;أصح شكلاً وهيكلاًquot; وأقوى عافية من كثير من الدول الأوروبية التي استحقت بالفعل صفة رجل أوروبا المريض . استحقته إيطاليا في الثمانينات، واليونان بجدارة في العقد الأخير، كما استحقته كل من البرتغال وفرنسا وإيرلندا، بل وألمانيا عقب الاتحاد . استحقته هذه الدول في وقت كانت تركيا تنهض اقتصادياً وتتطور سياسياً واجتماعياً .
نهضت تركيا بتأثير ظروف مواتية عديدة وبفعل إرادة داخلية لتحقيق quot;هدف قوميquot;، هو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عضواً كامل العضوية . ويحسب لدول الاتحاد، أو عليها، أنها لوحت بالعضوية بهدف إغراء قادة تركيا على تطوير النظام السياسي والاقتصادي لمصلحة عقائد الغرب ومصالحه، دون توفر النية الجادة لضم تركيا إلى الاتحاد .


ليس خافياً، ولا يجوز إنكار، أن جانباً كبيراً من الفضل في الانتقال بتركيا إلى مكانة اقتصادية وسياسية أفضل يعود إلى رئيس الوزراء أردوغان وزملائه مثل رئيس الجمهورية ووزير الخارجية . إلا أنه ليس خافياً أيضاً، ولم يكن غائباً عن خبراء السياسة في الشرق الأوسط، أن أردوغان وجماعته لم يستعدوا بالقدر الكافي للتعامل مع مشكلات بدت لهم بسيطة . أعلم شخصياً، من خلال أحاديث جرت مع مسؤولين أتراك في تركيا وخارجها أنهم كانوا يبالغون في تفاؤلهم بمستقبل تركيا ويبالغون في التهوين من التأثيرات المحتملة لمشكلات إقليمية على خططهم ومشاريعهم الاقتصادية . لم يدخلوا في حساباتهم في تلك الأيام، أي قبل عشر سنوات أو أكثر، أموراً كانت واضحة لنا بحكم تجربتنا العربية المكثفة والمعقدة ولم تكن واضحة لهم بحكم انشغالهم بكسب ود بروكسل وواشنطن وبقية عواصم أوروبا الغربية .
ما لا يقبل الشك هو حقيقة أن تركيا في ظل حكم أردوغان كانت تجربة مثيرة سياسياً وستبقى محل دراسة معمقة من جانب علماء السياسة . لقد ظن أردوغان أن اعتناقه quot;الإرثquot; العثماني بعد تجديده وتحسينه، وتبني حكومته نموذج الإسلام السياسي في الحكم، واعتماده على حماسة الطبقة التجارية والصناعية في تركيا وضعف دول الغرب أو انشغالهم بأزمات سياسية واقتصادية ودولية، وانهماك روسيا في إعادة بناء الداخل وأزمات أوروبا الاقتصادية، وتردد أو انحسار القوة الأمريكية، جميعها عناصر وظروف قابلة للاستمرار وكافية لحماية مشروعي أردوغان الشرق الأوسطي والأوروبي في وقت واحد . يتضح لنا الآن أن أردوغان ربما أخطأ في ظنه، فالعوامل التي تصورها قابلة للاستمرار بنفس الطاقة والعزيمة تخلت عنه، الواحد بعد الآخر، وانكشفت عناصر الضعف وسوء التقدير في نظامه وفي مشروعيه .
لاحظنا على سبيل المثال:


* أولاً، أنه جرى لنظام أردوغان ما جرى لنا في مصر . لم يدرك أردوغان وسياسيون مصريون أن النموذج الإسلامي في الحكم قد يعتمد في بداياته على تحالف يضم أحزاباً وتيارات سياسية إسلامية، ليكتشف أن هذه التيارات الإسلامية أشد قابلية للانقسام والخلاف، بل والاصطفاف وراء دول وقوى أجنبية، من التيارات الليبرالية والقومية . لم يدرك، كما لم يدرك أقرانه في مصر، أن بعض قواعد اللعبة السياسية التقليدية تستطيع أن تضبط علاقات الأحزاب السياسية غير الإسلامية ببعضها البعض في هدوء وسلاسة، بينما تتعامل الأحزاب والتيارات الإسلامية فيما بينها بمنطق التكفير والتخوين وعلى قواعد العنف والتخريب . لقد وصل الأمر بأردوغان أن يصف جماعة غولين الإسلامية التي اعتمد عليها داخلياً وخارجياً منذ نشأة نظامه، بquot;العصابة داخل الدولةquot;، وأن يطلب، حسب ما أشيع، من مجلس الأمن القومي اعتبار الجماعة منظمة إرهابية، بينما يقف زعماء جماعة غولين منددين بحكومة أردوغان الإسلامية ومتهمين رئيس الوزراء بأنه مريض نفسياً لأنه يتصور أن العالم كله يقف ضده، وأصبح يختلق الأعداء ويدّعي أن قوى دولية لا تريد أن ترى تركيا قوة إقليمية ذات شأن . لم يدرك أردوغان وهو يبني مشروعه للحكم أن حليفه القائد الإسلامي المتشدد غولين سوف ينقلب عليه ويسلط عليه الدعاء quot;ربي احرق بيوتهمquot;، ويرد أردوغان باتهام رجال غولين في الجماعة الإسلامية بالتسلل إلى أجهزة الشرطة والقضاء .
ما زلت أدافع عن الرأي القائل بأن تقصير أردوغان في عدم إدراك حقيقة وقواعد التعامل بين التيارات السياسية الإسلامية، أمر لا يغتفر، وسيلاحقه بالمشكلات والأزمات أمداً طويلاً .
ثانياً: أثبتت تطورات الأيام الماضية أن الوقت اللازم لتحقيق انسحاب كلي وشامل للمؤسسة العسكرية من الحياة السياسية أطول مما تخيله أو سعى إليه أردوغان وغيره من قادة التيارات المناوئة لهيمنة العسكريين . هذا الأمر يدركه جيداً المتخصصون في دراسة أنظمة الحكم في الدول العربية وأمريكا اللاتينية . لم أفاجأ وأنا أقرأ عن سعي أردوغان لكسب ود القوات المسلحة التركية لصالحه في صراعه الراهن ضد مؤسستي القضاء والشرطة . الرجل الذي قاد مسيرة الدولة المدنية ضد هيمنة السلطة العسكرية وسلط عليهم مؤسسة القضاء وأبعدهم عن مواقع عديدة في السلطة السياسية وأنكر عليهم التدخل في أي صورة أو شكل في الحياة السياسية، يعود الآن وعند مفترق أزمة عنيفة ليتقرب إليهم ويدفعهم للخروج عن عزلتهم ليعلنوا أنهم يقفون على الحياد بينه وبين خصومه الإسلاميين ومؤسستي القضاء والأمن الداخلي . المعنى واضح وهو أن الجيش بإعلانه الحياد عاد إلى قلب السياسة، باعتبار أن الحياد موقف إيجابي . مرة أخرى، نشهد عودة تركيا إلى نظام يكون للعسكريين فيه شأن ودور . يعودون بيد حكومة إسلامية وبيد أردوغان عدوهم اللدود .
ثالثاً، غالى قادة نظام أردوغان في تقدير قوة تركيا حين قرروا اختراق النظام العربي مستهينين بتعقيداته ومشكلاته العويصة، بدأوا بشعار quot;دولة بلا مشكلاتquot;، أو quot;صفر مشكلاتquot;، وانتهوا بدولة تمسك بخناقها مشكلات من كل الأصناف . كانت، ولاتزال، الأزمة السورية، أهم هذه المشكلات وأخطرها والدليل الأعظم على قصور في الفهم السياسي . لم يفهم صانعو السياسة الإسلاميون في أنقرة طبيعة شبكة العلاقات الإقليمية في منطقة المشرق ودور إيران وحدود وآثار غياب مصر وأبعاد الانطلاقة الأولى والأكبر لدول في الخليج نحو مغامرة عسكرية وسياسية واستخباراتية بمستوى quot;الأزمة السوريةquot; . لم يقدر حكام تركيا بالقدر المناسب الآثار المباشرة لدعم ثورة في سوريا على علاقات الطوائف والأقليات في تركيا وعلى رجال الأعمال، وعلى ذهنية متوقدة بالغضب في الجيش التركي . لقد كان للثورة السورية، كما للثورات العربية الأخرى، دورها في حالات الغليان التي عبر عنها شعب تركيا خلال مظاهرات quot;تقسيمquot; وغيره من ميادين مدن تركية أخرى، وفي لفت أنظار الرأي العام إلى أخطاء كارثية في السياسة الخارجية التركية .
سمعت في مصر مَن يردد أن أزمة أردوغان ستجد حلاً لها على أيدي المسؤولين في واشنطن . الغريب أن من يردد هذا الرأي، هو نفسه الذي كان يردد قبل ستة أشهر، بأن نظام الإخوان المسلمين ومستقبل رئيسهم في أيد أمينة في واشنطن .