محمد الأشهب


دفعة واحدة انفجرت أكثر من قضية سياسية وقانونية، على ضفاف الصراع الدائر بين الحكومة المغربية والمعارضة. وفيما طلب الاتحاد الاشتراكي الحكومة بتحريك المتابعة القضائية على خلفية اتهامات بإهدار دم سياسيين ومفكرين، لدى إثارة ملفات حول الإرث وزيجات القاصرات، اختار الاستقلال المعارض اللجوء إلى القضاء للحسم في اتهامات وجهّها رئيس الحكومة عبدالإله بن كيران إلى بعض رموزه، لجهة امتلاك إقامات في الخارج بطرق غير شرعية.

وألقى اللجوء إلى القضاء بظلال على تراكم تجربة وقفت أمام الباب المغلق في إدارة خلافات سياسية لا تستثني أي وسيلة في إضعاف الخصم. وبين إقرار المجلس الدستوري بكلمة الفصل في فض طعون قانونية وسياسية، كان آخرها إجازة الموازنة المالية للعام القادم، بعد أن أسقطها مجلس المستشارين (الغرفة الثانية في البرلمان )، يواجه القضاء امتحاناً صعباً. أقله أن شارات الحرب على الفساد انحرفت في اتجاه بلا مخرج. وستكون المرة الأولى التي يمثل فيها رئيس الحكومة أمام القضاء، في حال أقر المتابعة والاختصاص أمام المحكمة، أما إن اعتبر الأمر من قبيل المواجهات السياسية، فسيكون حسم في إشكالات سياسية بآليات قانونية.

غير أن اللجوء إلى القضاء أفضل من أي أسلوب آخر، ويبدو جلياً أن التجربة المغربية في طريقها الى حسم قضايا خلافية بمرجعية قانونية، ما يفيد بأن سلطة القضاء حين يكون مستقلاً ونزيهاً يلزم الجميع بالإذعان إلى قوانينه. وقد تنبه رئيس الحكومة إلى حجم الملفات المعروضة على القضاء، في شكل نزاعات بين الدولة والمواطنين، فأمر بنفض الغبار عنها، كونها تعاود بناء الثقة في دولة المؤسسات، وستكون البداية هذه المرة من مؤسسة رئاسة الحكومة، على ضوء صدور تصريحات اعتبرها خصوم بن كيران غير لائقة.

هل كان ضرورياً أن تصل المواجهة إلى هذا المستوى؟ لا أحد يجزم بأن رئيس الحكومة أخطأ الطريق، لدى إثارة ملف ممتلكات مواطنين مغاربة في الخارج. فالقانون لا يحظر ذلك، ولكنه يقنن طريقة استخراج الأموال، عبر ترخيص مكاتب مختصة. ولكن الأسلوب لم يكن خالياً من العيوب، على اعتبار أنه رئيس السلطة التنفيذية، وليس قاضيا يصدر الأحكام، وفي حال كان يتوفر على معطيات بهذا الصدد، كان في وسعه اللجوء إلى القضاء، لأنه وحده يملك سلطة اتهام الغير بعد صدور الأحكام.

وإذا كان خصوم بن كيران يعيبون عليه إقرار قوانين إبرائية تجاه مالكي الإقامات في الخارج، فعذره في ذلك أنه يفسح المجال أمام تسوية أوضاعهم لدى مصالح الجبايات الضريبية. وبدا في غضون ذلك، أبعد ما يكون عن استخدام أسلوب مطاردة الساحرات، من منطلق أنه معني بإغناء موارد الخزينة و ليس ملء السجون. لكن هفوات اللسان نقلت المعركة من سياقها إلى بعد آخر. أقربه أن الخلافات بين الحزب الحاكم والاستقلال الذي انسحب من حكومته، كان لها المزيد من الارتدادات، ولم تعد تقتصر على أشكال المناوشات السياسية التي ستكون مثل توابل الطعام، تزيده مذاقا، بل امتدت خارج السيطرة. وليس لأي جهة أخرى غير القضاء أن تعيد الأمور إلى نصابها، وإن بدت أكثر مدعاة للقلق.

بدأت كرة الثلج في التدحرج، و لا أحد في إمكانه أن يتحكم في مسارها. فقد جربت الحكومة نشر قوائم بأسماء المستفيدين من أذونات النقل ورخص مقالع الرمال، لكنها لم تتوصل بعد إلى الوصفة التي تقطع دابر الامتيازات بلا وجع. وربما أن أصعب ما تواجهه يكمن في شح الموارد المالية. ما دفعها لأن تضرب رقما قياسيا في الاستدانة من المؤسسات النقدية الأجنبية. وإذ تبحث عن أي وسيلة لضخ منسوب زائد في الخزينة لا شك أنها تضع في الاعتبار أن رؤوس الأموال تهرب مثل الطيور المهاجرة عند سماع طلقات النار، وإن وجهت إلى فراغ. وبين معادلة استقرار المال وتحفيزه، في نطاق التزام الواجبات والحقوق، وتنفيذ إصلاحات تخفض من حدة الفوارق بين الفئات، يكمن الرهان الأصعب. وأقرب إلى منطق الأشياء أن معاودة بناء الثقة عملة قابلة للصرف في أي زمان أو مكان.

افلتت كرة الثلج، لكنها استقرت أمام القضاء. وليس مثله أكثر نجاعة في تكريس أجواء الثقة، فالاستقرار السياسي في محيط مضطرب يشكل بوابة العبور إلى تنفيذ الإصلاحات الهادئة التي تدمر مخزون الشوائب ولا تحيد عن الأهداف المرسومة. لكن مواجهات المعارضة والحكومة لا يمكن أن تختلف حول المبادئ فقط. ولعل اللجوء إلى القضاء أفضل من استخدام تأثير المشاعر والانفعالات. فالمعارضة في موقعها كما الحكومة أيضا، و الرأي العام ينتظر أفعالاً وليس أقوالاً واتهامات.