غازي العريضي

أبدأ الكتابة هذا العام من تونس عائداً عامين إلى الوراء. ففي نهاية شهر يناير من عام 2012 كتبت مقالاً هنا بعنوان: حرية الضمير، تحدثت فيه عن الوضع في تونس والمناقشات الدائرة حول صيغة الدستور الجديد، بعد وصول حركة laquo;النهضةraquo; الإسلامية إلى الحكم، وأشرت إلى موقف الأزهر الشريف في مصر برئاسة شيخه الدكتور أحمد طيب الذي قال في أكتوبر 2010 لصحيفة laquo;النهارraquo; اللبنانية: laquo;لقد درسنا وثيقة السينودس، وحرية الضمير قررها الإسلامraquo;.

الكتابة كانت محاولة قراءة وربط بين الوضع في كل من مصر وسوريا وتونس، والرهانات على laquo;الثوراتraquo; العربية والتغييرات التي حصلت، وتونس هي الدولة العربية الأولى التي أخذت فيها المرأة حقوقاً كثيرة ومتقدمة أيام الرئيس بورقيبة.

كان ثمة خشية من عودة الأمور إلى الوراء مع حكم حركة laquo;النهضةraquo;، جاءت تطورات العامين الأخيرين، والانحرافات التي شهدتها laquo;الثورات العربيةraquo; والظواهر الجديدة التي شاهدناها، والتي عبـّرت في مواقع كثيرة عن تطرّف ومحاولات فرض أنظمة وقيم جديدة باسم الإسلام بعيدة عن روحه ومضمونه، وعن عادات وتقاليد شعوبنا لتزيد المخاوف وتهدد التنوّع في بلادنا داخل مذاهبنا أو طوائفنا، أو بين بعضها بعضاً، بل وصلت الأمور إلى حد دعوة كثيرين إلى إعطاء الأولوية لمواجهة الإرهاب والتطرف على حساب التغيير، ما أفقد حركات التغيير الكثير من الزخم والفاعلية والتأثير، وأصبحت دولنا تعيش حالاً من التشتت والفوضى، وصلت إلى حد الخوف على وحدة الكيانات ووحدة مؤسسات الدولة، بل فكرة الدولة هنا وهناك.

اليوم، وبعد مناقشات طويلة وصراعات وتجاذبات واشتباكات وعمليات أمنية في عدد من المناطق التونسية، وتحذيرات من انزلاق تونس نحو مواجهات أمنية، بل فتن داخلية، لاسيما بعد اغتيال عدد من السياسيين الليبراليين المعتدلين وظهور حركات تطرف، وحركات إرهاب، كما صنفها البعض من داخل تونس وخارجها، توصل التونسيون إلى اتفاق على إطار تفاهم سياسي أدى إلى استقالة الحكومة برئاسة علي العريض، وتسمية رئيس جديد لتشكيل حكومة جديدة تتألف من شخصيات متفق عليها وقادرة على إدارة الأمور في البلاد. ثمة أمران هنا ينبغي الوقوف عندهما. الأول: هو أن التفاهم السياسي بين القوى الأساسية في البلاد، والوصول إلى تركيبة حكومية تعكس هذا التفاهم عنصر مهم في منع انزلاق البلاد نحــــو الفوضى، أو المواجهات الأمنية المفتوحة، وتجنب الدخول في التصفيات الجسدية وعمليات الاغتيال لأسباب سياسية. إضافة إلى حماية إرث كبير على مستوى الدولة ودورها وفاعلية مؤسساتها، وإلى إبقاء الأمل كبيراً في أوساط الناس لاسيما الشباب منهم، بأن التغيير ممكن وضروري، ولا بد أن يتم دون إراقة الدماء . إن أي اتفاق يحمي هذه العناوين، ويكفل حرية الناس، وأي حكومة تنتج عنه أفضل بكثير من الفراغ والصراع، وكل من يشارك في هذه العملية يُسجل له دور تاريخي دون مبالغة قياساً على ما تشهده بلادنا وساحاتنا والمخاطر الكبيرة المحدقة بها.

ليس ثمة مشكلة في وصول قوى إسلامية إلى الحكم، المشكلة هـــي في كيفية إدارة الحكم. فإما أن تكون إدارة حكيمة سليمة تتيح للحكام الجدد تحقيق التغيير المنشود بما يكفل مصالح الناس وحرياتهم، أو تكون إدارة منغلقة، حساباتها ضيقة فئوية تريد تكريس هيمنة جديدة على الدولة ومؤسساتها ومراكز القرار فيها، فتعيد إنتاج حالات مشابهة لما سبقها، وأدت إلى ما أدت إليه من نتائج كارثية.

والأمر الثاني الذي ينبغي التوقف عنده اليوم أيضاً، هو الاتفاق على الإطار الحكومي، ومبدأ التغيير وقد تزامن مع إقرار المجلس التأسيسي مبدآن أساسيان، كنت قد أشرت إليهما في مقالة يناير 2012 وهما مبدآن مهمان. لقد تم الاتفاق على laquo;مدنيةraquo; الدولة. وهذه نقطة مركزية مهمة في هذه المرحلة بالذات. نعم الدولة المدنية هي التي تحمي التنوع وحقوق كل الناس. وتبعد الحياة السياسية عن التطرف والانغلاق أو الهيمنة. الدولة المدنية لا تتناقض مع حق الناس في إيمانهم والتعبير عنه، سواء أكان إيماناً أو عقيدة سياسية أو دينية. الدولة المدنية التي يكون القانون فيها هو الأساس والعدالة هي الفيصل وإرادة الناس هي الأساس هي دولة ضامنة لكل أبنائها وقادرة على التطور والنهوض بالبلاد. والمبدأ الثاني الذي أقرّ فهو يؤكد أن laquo;الدولة راعية للدين، كافلة لحرية المعتقد والضمير وممارسة الشعائر الدينية، حامية للمقدسات ضامنة لحياد المساجد ودور العبادة عن التوظيف الحزبي ...raquo;، ولا يزال النقاش دائراً حول تجريم laquo;التكفيرraquo;.

إن هذا المبدأ مهم وأساسي، لاسيما بعد تأكيد الفصل الأول من الدستور الذي كان قائماً عام 1959 والذي يشير إلى أن laquo;تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة والإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامهاraquo;.

إن هذا المبدأ مستنداً إلى الفصل الدستوري الأساسي، يُشكل قاعدة أساسية لوحدة الشعب التونسي والمحافظة على الدولة، وحماية التنوّع فيها، وثمة شجاعة في الاتفاق على تأكيد حرية المعتقد والضمير، وعلى دور المساجد والعبادة وتنوعها، لاسيما في كل ما نشهده من انحرافات وممارسات خطيرة جداً تهدد وحدة مجتمعاتنا وتماسكها.

إن الخطوات الأخيرة في تونس تبعث على الأمل بأن ثمة إمكانية معالجة قضايانا ومشاكلنا واختلاف وجهات نظرنا حولها دون المساس بضمير حركات التغيير وأمانات مصالح الناس. وأن ثمة إمكانية تنطلق من الضمير الجماعي والذاتي بالمحافظة على المكتسبات التي تحققت وتثبيت مسارات التغيير ومنع دولنا ومجتمعاتنا من الانزلاق نحو الفوضى والتوترات الأمنية.

وتونس بالذات لديها تجربة سياسية مهمة ومجتمعها متنوع ومنفتح على أوروبا والغرب، ونجاح هذه التجربة الجديدة مهم جداً ، ويشكل تحدياً كبيراً في هذه المرحلة بالذات التي يناقش فيها مفهوم الديموقراطية في أوروبا والغرب، ويزداد القلق من الحركات الإسلامية. لقد بدأ كثيرون في الغرب يتحدثون عن الديموقراطية بعيداً عن نتائج صناديق الاقتراع كعنصر وحيد حاسم في النتائج، وفي أحقية تمثيل الشعوب والتعبير عن إرادتها في مراكز القرار في الدول والمجتمعات.

ثمة عناصر وأسباب وعوامل اقتصادية ومالية وسياسية جديدة مؤثرة وفاعلة في حرية الشعوب وقرار الحكومات، ينبغي الوقوف عندها مع التحولات التي شهدها العالم خلال العقدين الماضيين وفي بدايات هذا القرن، إضافة إلى ضرورة حماية التنوع في المجتمعات واحترام دولة القانون كتعريف للديموقراطية الحقيقية وهذا ما يمكن البناء عليه في الصيغة الدستورية التونسية الجديدة.

أتمنى النجاح لهذه التجربة علّها تكون مثالاً يحتذى به في ساحات أخرى، آخذين بعين الاعتبار خصوصياتها! إنها تجديد للأمل.