رشيد الخيّون

بقى الماضي البعيد، حسب ما سجل حوادثه الرجال على سماعهم وأهوائهم أيضاً، سيفاً ذا حدين: أنس القراءة والفائدة من التجارب وتكريس التضامن بين البشر، واستذكار الثأر لإدامة الكراهية. وبالتالي يُمسي الهدف العيش في كهف الماضي، وكأن لا حاضر بعده. أكثر ما يختلط في الماضي الدين، بمعناه السياسي، فمصطلح laquo;الفرقة الناجيةraquo; سياسي، يدفع الرؤساء إلى تفعيله كلما اقتضت الحاجة.

ليست هناك فرقة لم تضع نفسها الناجية، مع أن الحديث واحد، فلماذا كل هذا الاختلاف في صياغاته، إذا لم يكن من الموضوعات الأكثر خطورة عندما يروى مِن قِبل علماء كل فرقة ويدخل إلى صفوف تلاميذ المدارس؟ كيف سينظر كل تلميذ إلى الآخر الذي هو ليس على مذهب أسرته! أقول أُسرته لأنه ليس هناك مَن اختار مذهبه، وإنما وصله مع ما يصل من الآباء والأمهات إلى الأبناء. متى انتشر هذا الحديث؟ الجواب: في زمن الخلافات الكلامية الحادة، التي نزلت من مجالس العلماء، حيث المناظرات وقيودها، إلى العوام الذين يتسع الخلاف بينهم، والمحكومون بالتقليد، ولو كانوا محصنين بالعقل ما جاز عليهم التقليد.

انظروا في أسماء السلفيين الجهاديين وكناهم وأسماء أفواجهم الحربية، الغالب عليها أسماء وكنى الصحابة وأئمة الفقه، وحتى تنظيماتهم النسائية بأسماء وكنى المسلمات الأُوَل، وكذلك التنظيمات الشيعية الجهادية أيضاً تأخذ أسماء الأئمة وأسماء بنات الأسرة العلوية، تنظيمات الرجال و النساء والشباب والأطفال.

يذكر الشيخ حسن البنا (اغتيل 1949) نصيحة الشيخ محمد سعيد العرفي (ت 1956) له، أحد علماء دير الزور السورية: laquo;سم إخوانك وأصحابك ومنشآتك، قُل لهذا: إنك تشبه أبا بكر، ولهذا إنك تشبه عمر، فإن ذلك يبعث فيهم الحمية، ويدفعهم إلى القدوة الحسنة والأسوة الصالحة. فأقول: يسلقنا الناس بألسنة حادة! فيقول: ما لك وللناس! كن مع الله، وافعل كل ما فيه الفائدة، وسم منشآتك: معهد حراء للبنين، مدرسة أمهات المؤمنين للبنات، نادي الخندق... إلخ، لتبق هذه الذِّكريات في النُّفوسraquo; (البنا، الداعي والداعية).

ليس هناك اعتراض على هذه الأسماء وغيرها، فالناس أحرار في ما يُسمون أبناءهم أو أشياءهم، لكن مشكلة ذلك أن هذه الأسماء عندما تكون لفعل سياسي لا تبقى حيادية، بين المسلمين، لأن السياسي عندما يُسمي حزبه بـlaquo;بدرraquo; أو laquo;الخندقraquo; أو laquo;الأحزابraquo; أو laquo;الحسينraquo;، سيكون خصمه، في ذهن أتباعه، مشركاً مقابل غزوة laquo;بدرraquo;، وفيروز النهاوندي (قُتل 23 هـ) مقابل عمر بن الخطاب (اغتيل 23 هـ)، ويزيد بن معاوية (ت 64 هـ) أو عبيدالله بن زياد (قُتل 67 هـ) مقابل الحسين بن علي (اغتيل 61 هـ) وأصحابه. أقصد عندما يكون النظام نظاماً سياسياً ديمقراطياً، وفيه منافسة حُرة بين الأحزاب السياسية، ليس من الحق اتخاذ هذه الأسماء العامة.

لقد واجهت الشيخ البنا ذاته خلافات دبت داخل جماعته، وهنا تفرعت العناوين، ففي الجماعة سيكون ثنائي الحسين ويزيد أو علي وابن ملجم، وهكذا. فعن أول أيام تشكيل laquo;الإخوان المسلمينraquo; كتب المؤسس والمرشد تحت عنوان laquo;نماذج من الكيد الحقيرraquo;، عندما أراد الشيخ صلاة العيد في عرض الصحراء، على أنها laquo;من أحكام السُّنَّةraquo; (المصدر نفسه)، كذلك كان يشكو من خلاف حاد بين جماعته وهم في خطوتهم الأولى بالتأسيس، عندما عُين أحد laquo;الإخوانraquo; مكانه لإدارة فرع الإسماعيلية، وهو ذكرها بـlaquo;المؤامرة والفتنةraquo; (المصدر نفسه).

ظلت نصيحة الشيخ العرفي حيةً، فانظروا ما حصل بمصر، وكيف حول laquo;الإخوانraquo; السيدة رابعة العدوية إلى مجرد رقم كشعار لهم، بينما في حقيقة الأمر، ومع الالتباس في قصتها، كانت متصوفة مغالية في الزُّهد، وكيف تصبح شعاراً لجماعة حزبية تطلب الرئاسة والمُلك؟!

هذا، وليس أكثر من استحضار الماضي البعيد في وضعنا العراقي، وعلى وجه الخصوص بعد (9 أبريل 2003)، وقبلها في الحرب العراقية الإيرانية (1980- 1988) كان التاريخ منبعثاً بقوة، باسم laquo;القادسيةraquo; لجلب حماسة القادسية الأُولى (17 هـ)، والسجال بين العراق وإيران جرى باسم الماضي. انبعث المجوس ضد المسلمين، وسعد بن أبي وقاص (ت 66 هـ) يبارز رستم! والمهدي المنتظر يطارد المسيح الدجال. حتى صارت المعركة خارج الزمن. نزل هذا الخطاب إلى المدارس: انتصرنا على الفرس المجوس، والعراق الكافر!

أما في هذه اللحظة، فانظروا ما يحصل بالعراق؛ إن رئيس وزراء بلد متنوع المذاهب والأديان والثقافات، يخرج ويقول: laquo;كربلاء قِبلة للمسلمينraquo;! يمكن أن نتفهمها على أنها تعبير مجازي، بأي معنى يفهمها الآخر، والمعلوم أن الكعبة هي قِبلة المسلمين التي كان يُصلي إليها الحسين بن علي وهو في ساحة المعركة. كيف تريد منازلة المتطرفين، وأنت تُقدم لهم العذر في الإيغال بدفاعهم عن الشريعة، حسب تصورهم وما يكسبون به الأتباع؟ كيف لرئيس وزراء العراق أن يُقدم المعركة بالأنبار على أنها بين الحسين ويزيد، ما لعصرنا وعصر الحسين ويزيد؟ وماذا عن الأقوال التي تقبل التأويل، فأُولت حتى شملت كل سُنيٍّ؟! وكيف إذا أُضيف لقب laquo;مختار العصرraquo; كراية مرفوعة؟!

إن الناس، تحت الضغط الطائفي، لهم ترجمة الكلام بعدة مشاعر، أولها إلى طائفة الحسين ونوري المالكي رئيسها، وطائفة يزيد تضم مَن يعترض على الحرب، أو يسأل: أين كان رئيس الوزراء من الحرب على الإرهاب، ولأسباب أخرى لا علاقة لها بتشجيع الإرهاب أو التَّستر عليه! تترجم هكذا لأنه كلام رئيس وزراء. يبدو هذا الرجل وحزبه لم يتجاوزا عتبة الماضي البعيد. وإذا لم يكن رئيسَ وزراء البلاد ما عتبنا بكلمة.

لو نعبر إلى الشام ونجد التاريخ قد هُتك بأسماء جماعات لا تعرف سوى الدم؛ هذه تريد إقامة حدود الله! وتلك تدافع عن أبنية المراقد! وبهذه الأعذار سيق الشباب إلى الهلاك، بعد حشوهم بكراهيات ومغالطات. أقول: للأسف السياسات توجه الآن بأثر رجعي، بينما في التاريخ، وفي الدين، ما تسعد به النفوس ويُبسط التَّعايش، وهذا ما زال تراثاً محجوباً، لم ينفذ إلى الأسماع.

أختم بإخوان الصَّفا (العاشر الميلادي)، وهم من الماضي البعيد أيضاً، إلا أنه بلا كراهية: laquo;الإنسان قادر على أن يقول ما يعلم، ولكن لا يقدر أن يعلمَ خلاف ما يعقلraquo; (الرسالة 13، الرياضي). أقول: هل يُعلم ما يُقال؟ وإذا عُلم هل يُعقل بأن المعركة مستمرة بين الحسين ويزيد، أو مَن يخطئ بركعات الصلاة يُقتل؟!