بسبب النسبة «الحالية» العالية للأمريكيين المتحدرين من أصول ألمانية، فقد انتشر اعتقاد بأن الكونغرس الأمريكي، قام في بداية تأسيس الدولة، ووضع دستورها، بالتصويت على لغة الدولة الرسمية، وكان الاختيار بين اللغتين، الأوسع انتشارا، حينها، الإنكليزية والألمانية، وأن الإنكليزية فازت بالكاد، وبفارق صوت واحد، ولولا ذلك لكانت لغة أمريكا، وتالياً لغة أغلبية دول العالم اليوم، هي الألمانية، بسبب التأثير الهائل للتقدم الأمريكي في خلق مئات آلاف الكلمات الجديدة، من خلال آلاف المنتجات في حقول الدواء والفضاء والكمبيوتر وغيرها.

إلا أن الحقيقة أن الكونغرس الأمريكي لم يصوت، ولم يصدر قط قانونًا بجعل الإنكليزية اللغة الرسمية للولايات المتحدة، بل كان اختيار الإنكليزية «أمراً واقعاً»، كون أصول أغلبية الآباء الأولين لاستقلال أمريكا من البريطانيين، لكن قدّم أعضاء الكونغرس، على مر السنين، العديد من مشاريع القوانين لإعلان الإنكليزية لغة رسمية، لكن هذه المشاريع لم تُسنّ كقانون اتحادي، ولم تحظ بأي اهتمام، فحكم الواقع فرضها على المستوى الاتحادي، من خلال الممارسة، وليس من خلال تعديل دستوري أو قانون وطني ناجح. وتبقى قصص التصويت على اختيار اللغة مجرد خرافات تاريخية.

جدير بالذكر ملاحظة أن الرئيس دونالد ترامب، أصدر في مارس 2025 أمرًا تنفيذيًا يُحدد الإنكليزية لغة رسمية للولايات المتحدة، للأغراض الاتحادية، لكن ذلك كان «إجراء تنفيذياً»، وليس تصويتًا من الكونغرس أو تغييرًا دستوريًا.

بصرف النظر عن المستوى الفدرالي، تبنت العديد من الولايات قوانين أو تعديلات دستورية، تجعل اللغة الإنكليزية لغتها الرسمية، غالبًا عبر المجالس التشريعية للولايات، أو من خلال استفتاءات شعبية. لكن ما السر وراء هذا الوجود الألماني القوي في امريكا؟

رسّخت ألمانيا وجودًا قويًا في الولايات المتحدة، من خلال موجات هجرة هائلة في القرن 19، مدفوعةً بالصعوبات الاقتصادية والاضطرابات السياسية ونقص الأراضي، متجاوزةً في أعدادها الهجرة البريطانية اللاحقة. بدأت موجات الهجرة الألمانية بين عامي 1820 والحرب العالمية الأولى، حيث هاجر ما يقرب من 6 ملايين ألماني إلى الولايات المتحدة، وبلغت ذروة الهجرة في خمسينيات القرن 19 وثمانينياته، وكانت في الغالب بسبب فشل المحاصيل الزراعية الرئيسية، وفشل ثورات عام 1848، التي أدت إلى نزوح «اللاجئين السياسيين»، وتفتيت المزارع بسبب الاكتظاظ السكاني، والضغوط الاجتماعية والدينية، التي فرضها توحيد بروسيا على الألمان الكاثوليك والاشتراكيين.

استقر الألمان بكثافة في أمريكا، بما يعرف «الحزام الألماني»، المتمثل بالغرب الأوسط: بنسلفانيا، أوهايو، ويسكونسن، ميزوري، وشكلوا مجتمعات، مثل جيرمانتاون (1683)، وسيطروا على مناطق، مثل سينسيناتي وميلووكي بحلول عام 1890، لكن لماذا لم يكن هناك المزيد من المهاجرين البريطانيين، أو بالأحرى الإنكليز، خاصة أنهم هيمنوا تقريباً على أمريكا في بداياتها الاستعمارية، وكانت نسبتهم 60% عام 1790، ولماذا تباطأت بعد الاستقلال (1776)؟ السبب يعود إلى الانتعاش الاقتصادي في بريطانيا، وانخفاض حدة «الضغوط»، كالمجاعات والثورات، وبالتالي فاق عدد الألمان عدد الوافدين الإنكليز اللاحقين، بسبب الهجرة المتسلسلة. وبحلول عام 2000، بلغ عدد الأمريكيين من أصل ألماني 42.8 مليون نسمة (15% من سكان الولايات المتحدة)، متجاوزين بذلك الأمريكيين من أصل أيرلندي (10.8%) والإنكليز (حوالي 9%)، وذلك بفضل ارتفاع معدلات المواليد واندماجهم مع المجتمع الألماني، مع الحفاظ على الروابط الثقافية، حيث كانت هناك 800 صحيفة تصدر بالألمانية عام 1894، وربما توقفت جميعها اليوم عن الصدور. كما ساهمت أوجه التشابه الثقافي، وبالذات أخلاقيات العمل البروتستانتية، والجذور اللغوية الجرمانية، في سرعة اندماجهم مع المجتمع الإنكليزي، دون الاضطرار لمحو الهوية الألمانية تمامًا.


أحمد الصراف