توفيق رباحي
أكتب مرة أخرى عن تونس المقبلة على انتخابات نيابية في أواخر هذا الشهر تليها أخرى رئاسية الشهر المقبل.
تونس التي شكلت نموذجاً استثنائيا منذ 2011 بثورتها السلمية، ثم خروجها من مخاض ما بعد الثورة بأخف الأضرار مقارنة بالتجارب الإقليمية الأخرى، تونس هذه مقبلة على تجربة استثنائية أخرى: ثورة مضادة سلمية، إذا تيسر لرموز وقادة النظام السابق العودة للحكم.
ستكون ثورة مضادة بطرق دميقراطية وسلمية.
يمثل الباجي قايد السبسي، بماضيه وتاريخه السياسي والإداري، رأس ورمز هذه الثورة المضادة. لكن هناك الأسوأ من الحالة التي يمثلها قايد السبسي.
هناك الاستعداد الذي تبديه أوساط سياسية وإعلامية لقبول عودة النظام السابق (البنعلية بدون بن علي). وهناك الجاهزية التي يبديها بعض الذين انتسبوا إلى نظام بن علي إلى آخر لحظاته، للعودة مستفيدين من استعداد أوساط إعلامية وسياسية.
النموذج الصارخ هنا يشكله السفير السابق المازري حداد، مندوب تونس لدى منظمة اليونسكو إلى يوم 14 كانون الثاني/يناير 2011، أي يوم سقوط بن علي.
في ذلك اليوم، وقبل ساعات من سقوط بن علي، كان حداد ضيفا على برنامج تلفزيوني في قناة فرنسية، فوصف الثوار المتظاهرين في بلاده، من نساء ورجال، بالكلاب الضالة، وقال إن بن علي يجب أن يبقى في الحكم مهما كان الثمن.
عاد حداد مجددا ونزل يوم الجمعة ضيفا على برنامج تلفزيوني في تونس (من باريس عبر الساتلايت) فقال بلا حياء: «أطلب من الشعب التونسي أن يعتذر مني». ثم مضى واصفا ما حدث في 2011 بأنه انقلاب وبأنه خراب وإساءة لتونس.
بدا الرجل وكأنه يعيش في كوكب آخر. لا يستمع لأحد، لا يجيب على أي سؤال، ولا يبدو منه ما يشير إلى احترام الآخرين. يستعمل عنفا لفظيا جدير بأن يقوده إلى محاكمة.
في أثناء الكلام اشاد حداد برجل اسمه المنذر الزنايدي. والأخير وزير سابق تولى حقائب عدة في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي منذ بداية التسعينيات وإلى غاية سقوط نظامه. عاش بعدها في فرنسا وعاد مجددا إلى تونس قبل نحو شهر حيث استقبله عشرات التونسيين بالأفراح والزغاريد والأعلام. هو اليوم مرشح للانتخابات الرئاسية التي ستجري شهر تشرين الثاني /نوفمبر المقبل.
يحاول هؤلاء العودة الى السياسة من النافذة مستثمرين في أخطاء وتقصير مؤسسات الحكم التي أعقبت سقوط نظام بن علي، وفي عجزها عن إصلاح عقود من التكلس السياسي والإداري والشلل في الذهنيات والمؤسسات.
وهو بلا شك تقصير لا يمكن إنكاره، لكن لا يمكن أيضا إنكار أسبابه الموضوعية، ولا يمكن مناقشته خارج الزمان والمكان. هذا بالضبط ما يفعله العائدون فوق الجثث من رموز النظام السابق، أي الاستثمار في الأخطاء مع فصلها عن سياقها ومع إنكار أسبابها الموضوعية التي يتحملون وزرها الأكبر، لأن مشاكل تونس التي عجز مؤسسات الحكم بعد 2011 عن علاجها متراكمة وموروثة ولم تولد مع الثورة أو بعدها.
المطلوب من شركاء الحكم في تونس اليوم تجنب الوقوع في المزيد من الأخطاء. ومن هذه الأخطاء المتوقعة منح رموز بن علي ورجاله فرصة العودة عبر الانتخابات وبطرق ديمقراطية.
هذه هي المهمة المستعجلة التي لا مجال للتهاون معها. تونس مقبلة على ثورة جديدة، من الوارد أن تكون ثورة مضادة تقضي على طموحات وأحلام وتضحيات مئات، بل آلاف الشبان والشابات الذين انتفضوا ضد بن علي والمازري حداد والمنذر الزنايدي، ومن خلالهم أو عبرهم، ضد الباجي قايد السبسي.
الأولوية اليوم أن تتحد كل القوى السياسية البريئة سياسيا وفكريا من بن علي وتضع خلافاتها جانبا لمنع وصول أمثال المنذر الزنايدي أو الباجي قايد السبسي والماجري حداد إلى الرئاسة والسياسة.
والأولوية أيضا منع انتشار وتغلغل خطاب «الردّة السياسية» كالذي يلقيه المازري حداد.
ثورة تونس النموذجية أمام «مؤامرة ديمقراطية» تتغذى سياسيا وروحيا من تجارب الفشل في الدول المجاورة كمصر وليبيا، وتريد فرضه على التونسيين، لكن من دون دماء.. بل فقط من خلال خطاب الانهزام والسلبية. مؤامرة تتشجع من دول تحكمها عائلات بالحديد وتمنع عن شعوبها حق استنشاق الحرية، بل وتمنع هذا الحق عن الجيران حتى لا تنتقل العدوى الى مجتمعاتها.
هي ذاتها العائلات التي استثمرت في خيبة أمل المصريين في منظومة الحكم التي أعقبت نظام حسني مبارك، وحرّضت على العودة الى «المباركية» بدون مبارك.
تستطيع تونس أن تمضي عشر سنوات اخرى في ما هي عليه، أفضل لها ذلك وأشرف من أن تعود خطوة واحدة الى الوراء أو يعود إلى حكمها من وضعوا الناس في السجون عقوداً من الزمن ودمروا وشردوا ونفوا عائلات بأطفالها بجريرة والد أو شقيق قال كلمة هنا أو فكرة هناك لم ترق للسلطان وأزلامه.
ثورة تونس هي أجمل ما اصاب هذه المنطقة العربية الموبوءة في العقود الأخيرة. والأجمل ألاّ تفرّط في نفسها. هذا هو التحدي الأول الآن، بغض النظر عمن سيحكم.
لا خير في من يفرّط في ثورة لم تجف بعدُ دماء شهداء لها يصفهم «فيلسوف» بالرعاع والكلاب الضالة. التاريخ سيحاسب أهل الحكم الحاليين إن سمحوا بعودة «البنعلين» بنفس القدر الذي سيحاكم به رموز النظام السابق.
التعليقات