محمد كريشان
دائما محل جدل… زمن الاستبداد وزمن الحريات، دائما محل انتقاد… في الأيام العادية وأيام الحملات الانتخابية … هكذا هو دائما الإعلام في تونس، معضلة في ضموره ومعضلة في تمدده.
قبل يومين، أصدرت ثلاث عشرة جمعية ومنظمة غير حكومية بيانا عبرت فيه «عن انشغالها العميق إزاء الانزلاقات الخطيرة والممارسات غير الاخلاقية التي تردّت فيها بعض وسائل الاعلام السمعية والبصرية الخاصة» خلال هذه الفترة، واعتبرت بعض هذه التجاوزات على هذا الصعيد «تهديدا صريحا للمسار الديمقراطي في تونس ولحرية التعبير، المكسب الأبرز الذي تحقّق بعد الثورة». كما أدانت هذه الجمعيات والمنظمات ومن أبرزها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان «محاولات السيطرة على المشهد الاعلامي من طرف بعض رجال الاعمال واستعمال الوسائل الاعلامية كحلبات صراع ومنابر لتصفية الحسابات الشخصية أو لتضليل الرأي العام والتشويش على العملية الانتخابية».
تأتي مثل هذه الملاحظات رغم كل ما بذل من جهود قبل عدة أشهر لجعل الإعلام التونسي خاصة المرئي منه والمسموع في مستوى الحدث الكبير الذي تعيشه البلاد هذه الأيام باقتران الانتخابات البرلمانية الأحد المقبل بالانتخابات الرئاسية بعد شهر، لا سيما لجهة جعله قادرا على أن يكون بعيدا عن الشبهات المختلفة. وسعيا لذلك أصدرت الهيئة المستقلة للإعلام السمعي والبصري دليلا كاملا يحدد حقوق الصّحافيين وواجباتهم في الفترة الانتخابيّة يضم «مبادئ وقواعد ذات صبغة عامّة (…) إذا ما تمّ اتّباعها وتطبيقها بدقّة، فإنّ من شأن هذه الحقوق والواجبات أن تساهم في إضفاء مزيد من المصداقيّة على وسائل الإعلام لدى المواطنين- من ناحية- عبر تزويدهم بمعلومات وأخبار صحيحة، ولدى المترشّحين – من ناحية أخرى- عبر تمكينهم من النّفاذ إلى وسائل الإعلام وتبليغ أصواتهم».
أكثر ما يبعث على القلق في بيان الجمعيات إعتباره أن من أهم الاسباب التي ساهمت في تفشي هذه الممارسات هو «غياب الإرادة السياسية الجدية في التعامل مع ملف اصلاح الاعلام خلال السنوات الثلاث الأخيرة» و» غياب تحرك مؤسسات الدولة لمواجهة التمرد على القانون» ذلك أن بعض القنوات التلفزيونية على سبيل المثال استماتت في لعب دور الضحية لمجرد أن طلب منها تسوية وضعيتها القانونية، فيما وصل الاستهتار بإحداها مثلا إلى حد تمزيق أحد مذيعيها على الهواء قرار الهيئة العليا للإعلام بتخطئة هذه المحطة لقيامها بالدعاية السياسية لحزب محدد في مخالفة صريحة للقانون!.
لا شيء دمر الإعلام في تونس طوال عقود سوى هذا الغياب للإرادة السياسية لإصلاحه وفق تشريعات عصرية واضحة. وإذا كان ذلك أمرا مفهوما من نظام لم يكن يرى في الإعلام سوى أداة دعاية وتضليل وتشويه للمعارضين، فإنه من الكارثي أن تتواصل بشكل من الأشكال عقلية من هذا القبيل بعد كل ما عرفته تونس من ثورة أطاحت بالاستبداد وتطمح لإرساء دعائم ديمقراطية حقيقية. وإذا كان العابثون من القطاع الإعلامي في العهد السابق يعدون على أصابع اليد وهم بالأساس في الصحافة المكتوبة، ممن كانوا معروفين بالعمل مع الأجهزة الأمنية وتلقي التعليمات منها ومن القصر الرئاسي، فإنهم اليوم أكثر من الهم على القلب ويتبعون أحزابا شتى ودوائر شتى ومراكز مالية شتى، من بقايا النظام القديم ومن القادمين الجدد.
كلما اقترب الاستحقاق الانتخابي زادت ضراوة «الاشتباكات» الإعلامية وهذا إيجابي عموما لكن الخوف أن تزداد معه حدة «الضرب تحت الحزام» وفي أحيان كثيرة من أطراف لم يكن لها أن توجد في الساحة الإعلامية أصلا لولا منّ النظام السابق عليها برخص المحطات التلفزيونية والإذاعية والصحف التي كانت كلها موظفة لخدمة الرجل الذي انقلبوا عليه جميعا بانتهازية مفضوحة.
تونس التي لم تنعم بشيء في السنوات الثلاث الماضية أكثر من التمتع بحرية التعبير والصحافة قادرة على تحمل المزيد منها هذين الشهرين، حتى ببعض التجاوزات والخروقات، التي من الجيد الحد منها طالما من الصعب وقفها بالكامل. المهم الآن التطلع إلى المستقبل بعد أن يصبح للبلاد رئيس وبرلمان وحكومة للخمس سنوات المقبلة ومعهم ستؤسس هيئة مستقلة جديدة للإعلام السمعي والبصري مع ضرورة بعث شقيقة لها خاصة بالصحافة المكتوبة ليثــّبتا معا قواعد جليـّـة في حريتها، صارمة في أخلاقيتها، واضحة في قانونيتها. بهذا الشكل، يمكن للبلاد الوصول، على مراحل مدروسة يقودها أهل المهنة والمدافعون عن الحريات عموما، إلى قطاع إعلامي مهني وتعددي بعيدا عن الشوائب، قادر على المساهمة في إثراء الحياة السياسية الجديدة لا تشويهها والتشويش عليها. كثير عملوا على هذا الصعيد في السنوات الماضية ولا ينقص الآن بعد الدراسات والقوانين سوى هذه الإرادة السياسية التي آن لها أخيرا للبلاد أن تراها واضحة وضوح الشمس.
التعليقات