&&صلاح سالم
&
&
&
&
&
&
&
لم يكن مرجحاً أن يأتي حكم الرئيس عبدالفتاح السيسي ديموقراطياً ليبرالياً لأسباب عدة، في مقدمها طبيعة اللحظة الدرامية التي صاحبت صعوده نحو السلطة وما يحوطها من مشاغبات «إخوانية» في أرجاء مصر، وعنف إرهابي في سيناء، وتهديدات محتملة لثلاثة أنحاء البلاد. ولكن، كان منتظراً أن يأتي حكمه بمثابة مرحلة انتقال بين نظامي حكم حسني مبارك الأمني الاستبدادي الفاسد الذي سقط في 25 يناير، وبين نظام الحكم الديموقراطي المرجو لشعب دفع للحرية مهراً كبيراً من دمائه وأمانه عبر ثورتين وأربع سنوات من الاضطراب.
معنى الحكم الانتقالي هنا أن لا تنتسب ملامحه إلى بنية نظام الحكم القديم، لا إلى القوى الاجتماعية التي كانت نافذة فيه، ولا إلى الطبيعة الهيكلية الأحادية له، والتي تجعله طارداً كلَّ مخالف فكري وأيديولوجي، ومطارداً كلَّ تعددية حزبية ممكنة، ولا حتى إلى الثقافة السياسية التي نشأ عليها في الستين عاماً الماضية، حيث كان الموروث الاستبدادي لثورة يوليو يمثل مصدر الغذاء، ومركز الإلهام لتلك الثقافة، وإن اختلف هذا الموروث الاستبدادي الجامع بين مراحل اتسم خلال أحدها كالناصرية بالفعالية والعدالة، وفي أخرى ساداتية بالفعالية فقط من دون العدل، وفي ثالثة مباركية بالركود والظلم. فإذا ما خلا نظام الحكم القائم من تلك الثلاثية القديمة: البنية الاجتماعية الظالمة، والبنية السلطوية الصلدة، والبنية الثقافية الأحادية، صار ممكناً أن يكون نظاماً انتقالياً بالمعنى التاريخي العميق، وليس بالمعنى السياسي الضحل. وهو الأمر الذي كان يمكن أن يميزه مثلاً عن فترتين سابقتين تاليتين للخامس والعشرين من يناير، اعتبرتا مراحل انتقال مرت بهما مصر، وحكمت كلتيهما ملابسات جد مختلفة:
المرحلة الأولى جسدها حكم المجلس العسكري بين سقوط مبارك وتولي الرئيس «الإخواني» محمد مرسي، التي امتدت لنحو عام اختلطت فيه الأحلام الكبرى مع الأفعال الصغرى، خيالات الدولة المدنية الديموقراطية، مع أضغاث الدولة المرشدية «الإخوانية»، كما تعاركت فيها حول الدستور والانتخابات البرلمانية إرادتا مجتمعين: أولهما متمدن له تراثه المتجذر في تربة الدولة المصرية الحديثة لنحو قرنين على الأقل، هو الذي مارس الحلم ودفع ثمنه وصولاً إلى لحظة الانفجار الثوري التي لم يحصد عائدها. وثانيهما مجتمع رجعي يحمل ثقافة الكهف، عاش جل حياته على هامش المجتمع الأم، وفي ضدية الدولة الحديثة، أراد اغتنام الفرصة المتاحة في مغادرة موقعه الهامشي نحو تشكيل المتن المصري الجديد متصوراً، بوهم القدرة التنظيمية الفائقة، قدرته على تجاوز التاريخ الفكري والاجتماعي الحديث للمصريين. وبين الإرادتين المتصارعتين ضاعت اللحظة هباء، إذ أسلمت مصر إلى لحظة انسداد جديد، لنظام حكم رجعي بالمعنى الثقافي، يعاند كل المثل المستقرة للحداثة السياسية، بل يمكن وصفه بالطائفي، وإن تشكل عبر آليات ديموقراطية، وذلك في لحظة من عمر مصر يمكن وصفها بالعمى السياسي والتاريخي.
والمرحلة الثانية هي عام حكم الرئيس الموقت عدلي منصور، والممتدة بين سقوط محمد مرسي وبين انتخاب الرئيس السيسي، وهي مرحلة كانت أكثر نضجاً بلا شك من سابقتها، فثمة إرادة واعية وضعت خريطة طريق، وتصر على السير فيها، ولكنها كانت أيضاً مرحلة استقطاب شديد، وعنف طاغٍ على البر المصري في تنويعات مختلفة. وأيضاً مرحلة ضغط خارجي نجم عن تباين في الفهم بين تأويلين متناقضين لما جرى في مصر في الثلاثين من حزيران (يونيو)، وهل هو ثورة شعبية ساندها الجيش كما حدث تماماً في 25 يناير، وهو التأويل المصري الرسمي والعام الذي تعاطف معه عرب كثيرون، وبعض أطراف دولية. أم إنه محض انقلاب عسكري قام به الجيش تحت قيادة الفريق السيسي الذي وظف خبراته الاستخبارية الكبيرة في توشية الحدث بحركة تمرد مصنوعة، وضغوط إعلامية ممنهجة لدفع الناس إلى تأييد ما يجري، وهو تأويل تعاطف معه قليل من العرب، وكثير من الأطراف الدولية، خصوصاً في الغرب الأورو - أميركي الذي لا يزال ثابتاً حتى الآن على توصيفه للحدث، وإن اختلفت طريقة تعامله مع نتائجه، متجهاً نحو تعامل براغماتي معه، خصوصاً بعد أن صمد التأويل الأول، وتمكن ممن فرض حضوره، فصار هو السردية العامة، التي تحكمت بالواقع ودفعت به إلى الأمام، على خريطة طريق المستقبل.
هكذا، يصبح الفارق الأساسي (نظرياً) بين حكم السيسي الراهن وبين مرحلتي الانتقال السياسي السابقين عليه، هو نفسه الفارق بين التأسيس العميق لنظام ومجتمع جديدين، وبين إدارة المجتمع القديم بالآليات المتبعة نفسها لفترة قصيرة انتظاراً لما سوف يلي بعدها. وهو نفسه الفارق بين لحظة واعية أقدم فيها شعب على اختيار رئيس يريد له أن يسير به إلى المستقبل، وبين لحظة عمياء اختلطت فيها الأشياء، وعز فيها البناء فتم تأجيل الأمر كله إلى لحظة تالية. غير أن المشكلة الكبرى القائمة الآن، والتي صارت تثير شكوكاً قوية حول ممكنات التحول الديموقراطي في مصر، بل وفي صدق نيات الحكم في التوجه صوب هذا التحول، أن ذلك الفارق (النظري) لم يتبلور (عملياً) حتى الآن، وهو أمر لا يمكن تفسيره بالضغوط الأمنية الشديدة فقط، بل وأيضاً بالعجز الفاضح لدى السيسي نفسه ودائرة الحكم المحيطة به من مستشارين وحكومة وأجهزة دولة في فهم السياسة وممارستها، وفي استسهال المعالجات الأمنية لكل القضايا المثارة، ما أدى إلى تفريغ الحياة السياسية من كل المكونات الحية التي كانت قائمة قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة، ومن شتى الفاعلين الجدد الذين دخلوا إلى فضاء المشاركة السياسية الإيجابية، التي اعتبرت بدورها أبرز مكاسب 25 يناير. ففي العقل الباطن لدائرة الحكم الحالية لا يوجد إدراك واضح لحقيقة أولية جوهرها أن ممارسة السياسة تمثل ضمانة كبرى وأساسية لحلحلة المشكلات الأمنية، وتكتيل القوى المدنية ضد التطرف الديني، وبناء حواجز ضد طوفان الإرهاب. أما التعويل الكامل على الحلول الأمنية فلا يعني سوى تأجيل الاستحقاقات، ما يؤدي إلى تفاقم المشكلات، واستحكام الأزمات، انتظاراً للحظة انفجار مقبلة، حينما تبدو الدولة أقل سيطرة وأكثر وهناً عما هي عليه الآن.
وفي هذا السياق يمكن القول إن ما قد تعتبره دائرة الحكم الحالية (لم يستكمل النظام بنيته بعد) نجاحاً كبيراً في تصفية حركة الشارع السياسي من المتظاهرين السلميين، وتخلية الساحة الراهنة من القوى الاحتجاجية باعتقال رموزها، إنما هو في الحقيقة علامات خطر وليس علامات صحة، فالجماهير التي هجرت الشارع محبطة، والقوى الاحتجاجية المدنية التي همشت وعطلت فعاليتها مثلت الرصيد الحقيقي للحكم القائم، وللثلاثين من حزيران، وطالما أنها همشت، فالأكثر احتمالاً أن تعود من جديد في صور معادية للحكم القائم في لحظة بذاتها لم تتوافر معطياتها بعد، بل إن ضعف الحشد «الإخواني» نفسه ليس علامة صحة ودليل خلاص من تحدي الجماعة، بل قرينة على تحول بنيوي في خطط تحركها نحو المزيد من العنف، فالإرهاب الصغير، والعبوات الناسفة القليلة الاحترافية هي «إخوانية» في الغالب، تم استبدالها بالحشد المنظم. والخطير في الأمر هنا أن استمرار الوضع القائم على ما هو عليه من عقم السياسة قد يؤدي إلى تكثيف مزدوج في البخار المكتوم تحت السطح، فالقوى المدنية المهمشة تزداد انفصالاً عن الحكم، والقوى «الإخوانية» المعادية تزداد شراسة وتطرفاً في مواجهة الحكم، حتى تأتي تلك اللحظة الانفجارية، ليجد الحكم أنه صار وحده في مواجهة التطرف «الإخواني» محروماً من دعم القوى المدنية، أو ربما في مواجهة الطرفين معاً، كل واحد لأسبابه المختلفة، وهنا قد يحدث الانفجار، وبدلاً من أن يكون النظام القائم جسر انتقال بالمعنى التاريخي نحو ديموقراطية ليبرالية، يصبح مجرد فاصل سياسي، كالمرحلتين السابقتين، بين شكلين مختلفين من أشكال الفوضى.
&
التعليقات