صفاء ذياب


&

&

&

بعد أن يئس الفنان التشكيلي صدام الجميلي من مخاطبة الأشخاص الذين بدأوا بسرقة أفكاره التي حاول ابتكارها وتطويرها عبر أكثر من معرضين شخصيين، فضلاً عن بعض اللوحات التي شارك فيها في بينالي ومعارض مشتركة، كتب صرخته مؤخراً عبر مقالة نشرها في أكثر من مكان بعنوان «دفاعاً عن التجربة الشخصية»، طالب فيه بأن تكون لكل فنان تجربته الخاصة التي يستقيها من فلكلوره وثقافته ووعيه المتراكم، لا أن ينتحل ما يراه ويشتغل عليه بحجة أن المعاني مطروحة في الطريق.
صرخة الجميلي هذه دفعت الكثيرين لكي يعيدوا فحص التجربة العراقية، لكن الملاحظ أن هناك فنانين بدأوا يستغلون تجارب الآخرين ويعيدون إنتاجها، فمثلما كتب الجميلي، كتب أيضاً سنان حسين، في حين صمت فنانون كثر، ونحن نرى أعمالهم ترسم بأشكال تشوه ما قدموه… فهل نصمت عن هذه السرقات؟ وهل نبرّر ما يدعيه الآخرون بأن ما يحدث هو تناص وليس سرقة؟

تجاوز الأثر

يرى الفنان والناقد كريم النجار أن عملية الخلق الفني والابتكار، تخضع لقوانين وظروف بيئية وثقافية سليمة، تتيح للمنتج العمل بحرية والاطلاع على التجارب والصرعات الفنية الحديثة في العالم، فالفنان لا يمكن أن ينتج عملاً مهماً، وهو بمعزل عما يحيطه من تطور هائل ومتسارع في مجال التقنيات والرؤى والمشاريع والوسائط التي يشتغل عليها فنانو اليوم.
النجار لا يؤمن كثيرا بما يوصفه البعض بـ»التناص» في العمل الفني، وبشكل خاص إن كان محلياً، ويعدّه دليلاً على عملية تحايل لا تخلو من التقليد والتأثر، وفي بيئة عراقية عانت لسنوات وعقود، نتيجة الحروب والحصار والقبضة الديكتاتورية على شؤون الحياة، من انعدام الاطلاع على المنتج الفني العالمي بشكل مباشر، لذا نرى تأثير أساتذة الفن العراقيين، من الرواد والستينيين، وأغلبهم اطلع ودرس الفن في الغرب وتأثر به، واضحاً في أعمال الكثير من الفنانين الذين تتلمذوا على يد هؤلاء الأساتذة. فأعمال فنانين مثل، فائق حسن وجواد سليم ومحمد علي شاكر وإسماعيل فتاح الترك ومحمد مهر الدين ورافع الناصري… وغيرهم، نرى أثرها في كثير من أعمال الفنانين منذ سبعينيات القرن المنصرم حتى هذه اللحظة، لكن هذا التأثير خفّ لدرجات كبيرة، بعد أن أتيحت فرصة السفر والإقامة والدراسة في الخارج عند هؤلاء الفنانين، وأصبحنا نرى أن أعمالهم أخذت مديات بعيدة في تجاوز هذا الأثر، ونتلمس خصوصية واضحة في أعمالهم حتى لو جاءت وفق تأثيرات عالمية، لأن الفن بمجمله لغة عالمية خاضعة للتأثر والتأثير، وممكن التدليل على ذلك حين ننظر إلى الأعمال الجديدة التي يعرضها فنانون أكملوا دراستهم الأكاديمية في العراق، على سبيل المثال، أحمد السوداني، نديم الكوفي، هناء مال الله، كريم رسن، صدام الجميلي، محمد قريش، فاضل نعمة.. وغيرهم.

استيراد الدمى

يؤكد الفنان هاشم تايه على أن كل أثر يعيش في قدرٍ محتومٍ يقسره على التعالق بغيره، والتفاعل مع سواه، ويفرض عليه إنشاء مقترحه الجمالي الخاص في قلب ما تعالق به، أو تفاعل معه. التناص يُخلِّد النصوص، بطريقة ما، ويجعلها تعيش متضمّنة في ما سواها من نصوص. لا يوجد نصّ نزيه، أو بريء، أو مستقلّ. وليس غريباً أن نرى آثار التناص حتى في رسوم طفل لم يسبق له أن اطلع على رسوم أطفال سبقوه إلى الرسم. كما تظهر هذه الآثار في رسوم شعوب بدائية عاشت في عزلة منبتّة عن بعضها. ربّما يفسّر هذا الأمر بيولوجيا واحدة يعيش بها البشر، بدائيين ومتحضرين، أطفالاً وكباراً.. بيولوجيا قد تجعل تشابههم واقعاً حتى في ما يمكن أن يخرج من ملكات أخيلتهم، فإذا أضفنا إلى ذلك تماثل ظروف معيشهم، صار الأمر مفهوماً بدرجة أكبر.
ويضيف تايه: أن يأخذ فنان أفكار وموتيفات فنان آخر، لا يعني الـ(أخذ)، هنا، تناصّاً مع الـ(مأخوذ) منه، بل يعني أن هذا الفنان يقوم بالاستحواذ على ممتلكات غيره، بالسطو والسرقة، وفي أفضل الأحوال يعني ذلك أنه يقوم بتدوير هذه الممتلكات، وإنتاج بدائل مقلِّدة لها. «يحضرني، هنا، رأي للروائي فؤاد التكرلي الذي يقول نحن نستوردُ دُمىً من الخارج، ونكتب عليها أسماءنا.. إنّ انتشار الأفكار المتشابهة في الأعمال التشكيلية العراقية الأخيرة، واقعٌ فعلاً، وقد تعود أسبابه إلى تأثر هذه الأعمال بمصدر بعينه -مصدر عالمي في الأغلب- وظاهرة تشابه أعمال فنية لا تقتصر على الفن العراقي وحده، فما تمّ إنتاجه من أعمال عالميّة في إطار مدارس وتيارات ورؤى فنية محددة، جعل هذه الأعمال شديدة القرب من بعضها، وإنْ كشفت عن بصمات خاصة لكل فنان داخل كل تيار فني». مبيناً أن طبيعة ما ندعوه (أخذاً) من الآخر، وشكله وحدوده هو ما يجعل هذا (الأخذ) مشروعاً أو غير مشروع، مستساغاً ومقبولاً، أو غير مقبول وغير مستساغ.

النسخ واللصوصية

الفنان مازن المعموري ينظر لهذه القضية من وجهة نظر مغايرة، فيوضح أنه منذ فترة ليست بالطويلة، أي بعد عام 2003 ودخول عالم النت الافتراضي وآليات الاتصال السريع، أتيح لنا في العراق أن نكتشف كمّاً هائلاً من الأبواب المفتوحة على مصراعيها، بدءاً بالمتاحف الفنية إلى التجارب الفنية المختلفة والواعدة والجديدة بكل ما تعني الكلمة من ذهول بعد أن كان «السكيج» يعز على الفنان والطالب والرسام المبتدئ، وللأمانة أقول إن هذه الكتب والمصورات كانت حصراً لذوي النفوذ من فناني الستينيات الذين كانوا يسافرون ويمثلون البلد في المحافل الدولية ، وقد اكتشف الفنان العراقي أن أكثر التجارب الفنية العراقية إنما هي في الأصل استنساخ لتجارب عالمية، بدءاً من الرواد الذين نقلوا أعمال أساتذتهم إلى العراق، ما عدا فائق حسن لأنه ترك التجريد نهاية الستينات وأعلن أنه ليس فننا (وباللهجة العراقية «مو مالتنه» على حد تعبيره)، إلا أن الفنانين الجدد وقعوا في الإشكال ذاته لما للصدمة المعلوماتية من تأثير أولاً، وعدم القدرة على متابعة حركات الفن المعاصر على مستوى الصحافة الفنية وترجمتها إلى اللغة العربية ثانياً، آملين الحصول على شهرة أسرع وبيع أعمالهم خارج العراق.
ويشير المعموري إلى أن الحكم النقدي حول الموضوع يؤكد عدم القدرة على الابتكار بسبب الانقطاع عن العالم أولاً، ومحاولة اللحاق بركب أقرانهم من الفنانين في الأسواق الفنية ثانياً، وهو ما جعل الأغلب الأعم يعمل على أخذ ثيمة من هنا وأخرى من هناك عسى أن يحظى بإعجاب تجار الفن، لأن الساحة الفنية العالمية أصبحت مكشوفة، والثقافة البصرية لم تعد حكراً على أحد دون سواه.

محاكاة المظهر المرئي

يتحدث الفنان سنان حسين لجريدتنا متسائلاً بعد حديثه عن بداياته ومحاولاته للخروج بعمل يمثله، بعد أن رأى أغلب زملائه يقلدون أساتذتهم في أكاديمية الفنون الجميلة: هل هو الطموح أن نكون فائق حسن أو جواد سليم أو آخرين؟ مبيناً أن طموح جميع من في أكاديمية الفنون الجميلة كان تقليد أساتذتهم بالدرجة الأولى. حسين كان في صراع بين الواقعية والتعبيرية والتجريد، غير أن ميله للتجريد جعله يستخدم الكولاج ومواد مختلفة حتى تمكّن من إقامة معرضه الأول «جلجامش نحو الخلود»، إلا أنه رأى أن التجريدية العراقي متشابه باللون والموتيفات، ولها علاقة بالفنان الإسباني Antoni Tàpies والفنان الروسي Nicolas de Stael والفنان Paul Klee وكثيرين أيضاً من تأثر بهم الفنانون العراقيون، وهو ما جعله يبحث عن توجهه الخاص بعد مراحل عدة في لوحته، مؤكداً أن الكثير من الفنانين لا يتعبون أنفسهم بالبحث والتنقيب داخل أنفسهم فيأخذون ما يرونه جاهزاً أمامهم.
من جانبه يبين الفنان خالد المبارك مفهوم التناص من خلال البلاغيين العرب الذين وضعوه تحت مفهوم التشبيه ومن ثم الاستعارة.
موضحاً أن المفهومين يمثلان بنية مشاكلة بين طرف وآخر أو بين بنية وأخرى.
أي علاقة تشابه بين العمل الأدبي والفني، والتناص كما اتفق عليه، هو توارد الخواطر، أو استخدام فكرة، أو نص، أو عبارات، أو ألوان وأشكال وهيئات ورموز معروفة، في عمل جديد، من دون التنصل أو نكران عملية الاستعارة أو التوظيف، بل قد يقوم المستعير بالإشارة إليها، بهذا الشكل أو ذاك، مؤكداً المصدر الذي أخذ عنه، والهدف من عملية الأخذ هذه. فـاللوحة المنجزة، أي لوحة، إنما هي مجموعة رسوم الآخرين بعد أن هضمت الرسوم التي سبقتها وتمثلتها لتحولها إلى هذا المنجز الجديد.. يقول الأستاذ كاظم نوير «لا أشكال عذراء.
فالعمل الفني هو طبقات من الأعمال الفنية تماثلت وتشاكلت استجابة لقانون التشكل والتباين الإبداعي من جهة، ومن جهة أخرى فإنها تماثلت وتباينت استجابة لضرورات الخلق الفني المرتكز على ما للواقع من حضور خاص وجديد يشكل واقع النص وهويته.
إن أي فنان عندما يرسم أو ينحت أو يبني إنما يقوم بإعادة إنتاج سابق له بطريقة لا شعورية تراكمت لديه بفعل تراكم الصور في طيات الذاكرة تحت طبقات اللاوعي.
فهو لم يرسم المنظر الطبيعي عندما كان طفلاً بدون أن ينظر إلى رسام آخر كيف يرسم؟ ولم يقدر على توزيع الافكار داخل السطح التصويري ما لم ينظر إلى فنان آخر تعلم منه أو اخذ عنه خبرته؟ أي بمعنى انه يقوم بإعادة إنتاج غيره سواء كان يدري أو لا يدري».
وهذا ما نراه ونلمسه عند مشاهدتنا للعديد من الأعمال الفنية، سواء كانت في الرسم أو النحت أو الفنون الأخرى.
ويضيف: الفنان التشكيلي غير قادر على صنع أشكال بدون احتكاك بالمثيرات الشكلية عبر تناصاته ومن هذا التناص – التفاعل يستمد العمل الفني هويته. والفنان بسبب إرادته الشعورية واللاشعورية يبدأ بفرض أشكال جديدة، ووفق هذه المفاهيم تأثر جواد سليم بفن هنري مور، بعدد من التنفيذات إذ اتجه نحو الاختزال الشديد الذي وصل إلى حد التجريد، وهذا ما نلاحظه في تمثال الأم وهي تحتضن طفلها وكأنها كرة، على طريقة تكوينات هنري مور واختزاله.

خالد خضير الصالحي

إذا كان صدام الجميلي يرفض فكرة أن المعاني مطروحة في الطريق، فإن الفنان والناقد خالد خضير الصالحي يرى أنها فعلاً مطروحة في الطريق، إنما التميز يحدث بالأشكال، فرسوم الحضارات المختلفة تتميز بالأشكال، لذلك نعتقد أن التطابق بالموضوعات قضية مستساغة، لكن التطابق بالأشكال هو القضية التي تستدعي اإشارة السلبية، وهي دالة على نضوب المتحف البصري الشخصي للرسامين.
ويحدث حينما تهيمن مدرسة أو نسق فني مهيمن.
غير أن هناك أحياناً تطابقاً بالبنى الشكلية في موضوعات محددة.
مثلاً تظاهرة نعش الشهيد التي يتألف معمارها الشكلي من متظاهرين يحملون نعشاً ويتجهون به من جهة إلى أخرى قاطعين مساحة اللوحة عرضياً.
فقد رسمها كاظم حيدر وفائق حسن ومحمود صبري وهاشم حنون وفيصل لعيبي، كذلك وجود بنية الموكب في الفن العراقي القديم والفن الفرعوني ويمثل مجموعة متعبدين يفدون إلى الإله.
مضيفاً أن التطابق أو التأثر الشكلي الحاصل في الرسم العراقي الآن كرسم إطار الدراجة الهوائية عند عدد من الرسامين.
لكن الفنان قاسم العزاوي يؤكد أن مفهوم التناص، بما هو متعارف عليه، خاصة الآداب بجميع أشكالها من شعر وقصة ورواية وغيرها، لا ينطبق على فن التشكيل إلا من الفكرة أو الموضوع والأسلوب أيضاً، هذا لان الخطوط والألوان والتقنيات والخامات تختلف من فنان لآخر، ولكل فنان بصمته وتفرده الخاص وهويته التي يستطيع المتابع والمتذوق والمتلقي الحذق والناقد التشكيلي أن يؤشر إلى العمل التشكيلي أنه من عمل هذا الفنان أو ذاك، حتى إن لم يوقع اسمه على عمله، وحتى إن استنسخ عمل فنان آخر..، و»أعني بهذا أنه من الصعوبة أن ينقل جو اللوحة أو العمل التشكيلي بما أراده الفنان المتناص معه أو مقلده..
وإذا ما رجعنا إلى الوراء ـ زمنياً- ورغم مرور السنين على وفاة الفنان الرائد والمجدد جواد سليم، نرى أن بعض الفنانين ما زالوا يقلدون مدرسته البغدادية ـ المحلية كموضوع والعالمية كأسلوب – إلى حد الاستنساخ، كما دار في فلكه بعض أقرانه من الفنانين مثل، نزيهة سليم وشاكر حسن في وقته ونزار سليم والكثير من الفنانين الرواد، بما تركه الفنان الرائد من أسلوب وتنظير لمدرسة بغداد، التي جمع بها تأملاته بين منحوتات سومر وآشور ورسوم يحيى الواسطي والنحاسيات العباسية، كما نهل من الفنان العالمي بيكاسو وخرج بمدرسته البغدادية».
ولأنه كان الرائد والمنظّر لهذه المدرسة نرى بصمته واضحة على أعمال فناني جيله…
من جانب آخر، مرت مرحلة الفن التشكيلي بالعديد من المدارس والتجمعات الفنية، ولكل جماعة أسلوبها لذا نرى تكرر الأعمال الفنية بين فناني هذه الجماعات والمدارس.
و»أرى أن بعض الفنانين العراقيين الآن يقلد أسلوبية فنان آخر ويحاول أن يحاكيه أو يتحايث معه على الأقل بالفكرة والأسلوب والموتيفات.

&
&