محمد كريشان

آن لتونس الآن فعلا أن تترك المؤقت إلى الدائم، فبعد أربع سنوات على رحيل بن علي بإمكان هذا البلد الذي منه انطلقت شرارة الأحداث التي هزت كامل المنطقة العربية أن يفخر أن صار لديه الآن رئيس وبرلمان منتخبان بشكل ديمقراطي وحر في قطيعة مع عقود التزييف والدجل. لو لم تخرج تونس من ثورتها ومن سنوات المرحلة الانتقالية الصعبة بشيء سوى إرساء مبدأ التداول السلمي على السلطة عبر صناديق الاقتراع، وتعايش كل التيارات السياسية بعيدا عن أي استئصال أو اجتثاث، وإعلام حر بأهواء مختلفة… لو لم تخرج بغير ذلك لكفاها، ومع ذلك فهو لا يكفي.


مضت السنوات الأربع الماضية وتونس في حالة فوران دائم من حسن الحظ أنه لم يخرج عن المستساغ إلا في مناسبات محدودة وخلال هذه السنوات كان كل شيء مؤقتا، من الرئيس إلى البرلمان إلى الحكومة إلى عديد الهيئات الأخرى مما جعل منطق المؤقت يعشش في كثير من الأذهان إلى درجة تراجعت فيها أشياء كثيرة وأولها: العمــــــــل.


بصراحة شديدة، لم يكن التونسيون طوال هذه السنوات الماضية يعملون حقيقة لا في القطاع العام ولا الخاص. ساد الكثير من التسيب وانعدام المسؤولية وعمّ ما يعرف في اللهجة المحلية بــ «التكركير» أي غياب الجدية والإخلاص في العمل. وبالطبع أدى هذا إلى تراجع مخيف في الخدمات العامة وكذلك في مستوى إنتاج عديد القطاعات المختلفة بشهادة الأرقام الرسمية. حتى المعاملات اليومية في الإدارة والدوائر الحكومية المختلفة والتي لم تكن أصلا جيدة، تقهقرت إلى درجة أن بعضها مما لا يحتاج سوى إلى أيام معدودات بات يستغرق إنجازها أشهرا عديدة في انتظار توقيع مدير في إجازة أو تكرم سكرتيرة بإدخال الأوراق إليه . حتى الحرفيون والتجار البسطاء نخرهم هذا الداء فندر منهم من يلتزم بموعد إتمام عمل أوكل إليه أو إنجازه بالطريقة المطلوبة.


في المقابل، ترى كل هؤلاء المقصّرين في مجالات عملهم يخوضون في شؤون السياسة صباح مساء وكأن لا هم لهم في الحياة سوى ذلك مع مسحة عامة تنتقد الجميع سوى النفس، فهؤلاء يرون القذى في أعين الطبقة السياسية ولا يرون الجذع في أعينهم. ولهذا فإن من أوكد الواجبات الآن أمام الرئيس الجديد الباجي قايد السبسي والبرلمان التعددي الذي اننتخب قبله وبالأخص أمام الحكومة المقبلة ورئيسها أن يجعلوا في صدارة أولوياتهم دعوة التونسيين إلى إنهاء كل مظاهر الانفلات في تحمل الواجبات والعودة بكل قوة وجدية إلى العمل وإعلاء قيمته في المجتمع. وبإمكان هؤلاء جميعا أن يتوجهوا إلى الشعب بكل فئاته بنداء من هذا القبيل وهم لا يخشون شيئا فقد اختارهم الشعب بنفسه وأمامهم فسحة بخمس سنوات قادرين أن يتحركوا فيها براحتهم من الآن بعيدا عن أية حسابات انتخابية.


بالطبع، قطاعات واسعة من الشعب قد لا تبدي حماسة في هذا الاتجاه إذا لم تشعر في أقرب وقت ممكن بأن هؤلاء المسؤولين الجدد، وأغلبهم الآن من حركة «نداء تونس» الفائز بالرئاسة بعد المرتبة الأولى في البرلمان التي تؤهله لتشكيل الحكومة الجديدة، مهمومون بالمسارعة إلى خدمة البلاد ومعالجة مشاكلها القديمة والجديدة وعلى رأسها استعادة الأمن والاستقرار وتوفير فرص العمل لجيش العاطلين الذي تضخم في السنوات الماضية ومحاربة الفساد ومعالجة الاختلال بين المناطق وغياب فرص تنمية حقيقية في كثير من مدن البلاد. أغلب هذه المشاكل تحتاج إلى وقت بلا جدال ومع ذلك فإن المكتوين بنيران الخصاصة والتهميش والبطالة قد يظهرون استعدادا ما لمزيد من الصبر إن هم رأوا في الأفق مبادرات معينة، وإن كانت محدودة، لانتشالهم من هذا الوضع ولو على مراحل ولكن المهم أن نبدأ سريعا جدا.


أمام الرئيس الباجي قايد السبسي وحزبه والمتحالفين معه تحدي كبير يتمثل في التصدي لمعالجة القضايا الكبرى التي بسببها انتفض التونسيون والتي بسبب الفشل في مواجهتها عـُــوقبت حركة «النهضة» وكامل الثلاثي الذي حكم تونس بعد الثورة. ليس سهلا على هؤلاء الانتقال من الجالس على الربوة متبرما ومعارضا إلى من بيده زمام الأمور ليرينا الآن ما الذي يقدر عليه حقيقة. ما يطمئن هنا أمران: ما يعلنه الرئيس الجديد قايد السبسي من رغبة في إشراك الجميع في تحمل أعباء المرحلة المقبلة، وما تبديه قيادة حركة «النهضة» وأساسا راشد الغنوشي من حكمة وعقلانية ورغبة في التعاون مع الجميع لما فيه مصلحة البلاد واستقرارها.


وعندما يلتزم هؤلاء بما يعلنونه فبإمكانهم الشروع في هز وجدان الناس وتحفيزهم إلى العودة الجادة للعمل فتونس بلد محدود الموارد ولا قيمة لما يمكن أن ينعم به من ديمقراطية وحريات، على روعتها، إذا كان البلد متراجعا تنمويا وأمنيا. من حقنا التفاؤل.