يوسف الديني

الدراسات الاستشرافية أو ما يسمى علم المستقبليات Futurology هو بحث في الممكنات والاحتمالات القادمة ذات التأثيرات البالغة على حياتنا، عادة تهتم شركات الأعمال بهذا النوع من الدراسات رغم عدم يقينيتها Uncertainty لكنها تعطي مؤشرات مهمة جدا على مستوى ملفات اقتصادية واجتماعية وديموغرافية مثل معدلات استهلاك الطاقة، الإنترنت، انتشار البطالة، نسبة المعمرين في بلد ما.


ومن المهم جدا في قراءة المستقبل بناء على معطيات معينة تجنب أي انحياز آيديولوجي، والانطلاق من المسلمات والافتراضات المتفق عليها من مختلف اتجاهات البحث العلمي والفكري والعقائدي والتكنولوجي.


ماذا عن السياسة في الشرق الأوسط؟ هل يمكن محاولة قراءة مستقبل المسارات الكبرى السياسية في المنطقة خلال السنة القادمة؟ أعتقد من الصعب ذلك لأن أسلم الاتجاهات العلمية في مسألة «المستقبليات» هي المعتمدة على قواعد البيانات والإحصاءات والأنماط السائدة لكن شيئا من ذلك غير دقيق في عالمنا العربي على الأقل على مستوى مراكز الأبحاث والدراسات التي تنتج على المستوى النظري أضعاف ما يجب أن ينتج على الدراسات البحثية الميدانية والإحصائية وتلك قصة أخرى.


وفق الخطوط العريضة التي قذفتها الأعوام الماضية منذ لحظة البوعزيزي وحتى صعود {داعش} والتي كانت أقرب إلى دورة مكتملة ابتدأت بالاحتجاجات الشعبية وانتهت بتقويض استقرار عدد من الدول إلى أجل غير مسمى، يأتي العام المقبل باستحقاقات أخرى اقتصادية وثقافية واجتماعية لتزيد من عبء الملفات السياسية.


وعلى طريقة والحق ما شهدت به الأعداء فإن مراكز الأبحاث الإسرائيلية من أكثر المعاهد نشاطا في استشراف مستقبل المنطقة وهي تؤكد على أن شرق أوسطنا سيصبح منبع الفوضى وأحد أسوأ الأماكن للعيش وأكثرها خطورة؛ إذ يصف تقرير يقرأ مستقبل المنطقة ما بعد موجة الربيع أن كل التقارير الاستخباراتية التي شملت إيران مرورا بالعراق فسوريا فاليمن فمصر وشمال أفريقيا والخليج تؤكد على وجود تحديات سياسية كبرى وتكلس اجتماعي وتململ من تصاعد حالة الفقر ونقصان الفرص إضافة إلى أزمات الهوية والبطالة وتحديات الأمن فيما يخلص الخليج الذي وإن نجا من أسئلة الاستقرار وتحديات الإرهاب الكبرى فإنه ينتظره التصدي لآثار ما بعد الربيع العربي وصعود منطق الأصولية والعنف إضافة إلى الفراغ الكبير الذي خلفته تحولات هائلة على مستوى المرجعيات الدينية والثقافية وتفكك بنى وأنماط التلقي والتأثير والدخول في عصر «فوضى المحتوى» بما تقذفه أقانيم ومنصات الإنترنت والوسائط الجديدة من أسئلة عادة لا تفيد الإجراءات الاحترازية أو الأمنية من علاجها على المدى الطويل في ظل غياب محتوى بديل.


الأزمات الاقتصادية ستضيف عمقا جديدا لمشاكل المنطقة طبعا بغض النظر عن ظلال انهيار أسعار النفط الذي يخضع لمقاربات متباينة جدا سواء في الدوافع وعلاقتها بالأوضاع السياسية أو حتى في حرص السعودية لإيصال رسالتها النفطية للعالم بصيغة جديدة تعيد تعريف واعتبار ومكانة النفط التقليدي في ظل موجات وصرعات التخلي عن النفط التي ستذوب في ظل إخفاق الشركات الكبرى الباحثة عن نفط بديل عن الوصول لبدائل مقنعة سعرًا وكمًا وجودة وربما خسارة الكثير منها وإغلاقها.


أزمة تعاظم وصعود طبقة الشباب وتحولهم إلى قوة ضاغطة وكتلة اجتماعية هائلة بلا محطات استيعاب مما يجعلهم في ظل «فوضى المحتوى» فرائس سهلة لتنظيمات متطرفة سياسية أو حتى على مستوى العمل المسلح وهو ما يشكل كابوسا للمراقبين في ظل غياب استراتيجية شاملة لمعالجة ملف التحديات الأمنية ذات البعد الثقافي والفكري والسياسي والتي تحتاج إلى آليات عمل وأدوات وخطاب ومنتجات تختلف عن المواجهات الأمنية التي استطاعت الجهات الأمنية في الخليج والسعودية تحديدا تحقيق إنجازات كبيرة وحاسمة فيه، ولا يفترض أن تنوء لوحدها بحمل الشق الثقافي والفكري.


تنظيم داعش لوحده سيشكل عبئا كبيرا على المنطقة ليس على مستوى الخراب والفوضى والقتل والتدمير فحسب، بل على حساب استقطاب كوادر ومجموعات شبابية جديدة وتطوير خطابه الإعلامي في ظل استمرار فشل الحملة عليه إضافة إلى قدرته على اختراق مناطق فكرية جديدة في ظل عدم وجود ممانعة إسلامية معتدلة تناقشه في التفاصيل وبنية الخطاب ومفرداته وليس الإنكار الرسمي الذي يعد أقرب إلى تسجيل موقف منه إلى البحث عن حل في شرق سوريا وغرب العراق.


يتوقع الخبراء أن يفتتح داعش مناطق جديدة في ليبيا واليمن وحتى شبه جزيرة العرب، وكما يتوقع دخول الإسلام السياسي في مرحلة العمل السري والحشد الجماهيري في انتظار لحظة مفارقة مع انتقال عناصر أخرى ناشطة إلى العمل العنفي بعد رفضها للعودة للوراء لمرحلة ما قبل التمكين كما يتم التعبير عنه بلغة حركية.


الانقسام المتزايد في العراق سيضعف إلى حد كبير مواجهة {داعش}، كما أن عدم احتواء رئيس الوزراء حيدر العبادي للعشائر السنية واعتبارهم كتلة ضامنة لاستقرار العراق فالأوضاع هنالك إلى أسوأ.


إقليميا ستتغير معادلات المنطقة بالكامل في حال استطاعت إيران التوصل إلى اتفاقية دولية مع الغرب وأميركا كما سيلقي بظلاله على وضعية الأسد و{داعش} والتجاذب السلبي مع دول الخليج.


انتعاش مصر وتحسن وضعيتها مرهون بقدرة الرئيس السيسي وحكومته على الخروج من دوامة تأجيل الملفات الاقتصادية والتنموية بسبب العبء الأمني في سيناء وفي استقرار الشارع المصري، كما أن طريقة أدائه مع القوى الفاعلة التي دعمته من حزب النور إلى المجموعات الثقافية والسياسية الداعمة لـ30 يونيو ستكون نقطة تحول.


يبقى أن التدهور في اليمن حالة متوقعة دائما إلا أنه من المرجح في ظل صراع الديكة بين المكونات السياسية الفاعلة في اليمن (أحيل لمقالة: كيف نفهم اليمن غير السعيد) سيدع حلبة الصراع ثنائية برعاية قبلية بين «القاعدة» والحوثيين.


ماذا بقي لنتفاءل سوى الحب الغريزي للحياة، والرغبة في العيش بشكل أفضل والذي سيبقى مهما تصاعدت الانقسامات والأزمات الكبرى الدافع للخروج من حالة الدوران حول الذات المرتبكة بين تحديات ومخاطر أمنية وبين تطلعات لعيش الرفاه وتقدم اقتصادي يقود لمستقبل مختلف عن السنوات العجاف السابقة.