غسان العزي
في نهاية الشهر الجاري تنتهي مهلة التسعة أشهر التي حددها الأميركيون للتوصل إلى اتفاق بين الفلسطينيين وquot;الإسرائيليينquot; في المفاوضات التي يديرها جون كيري، ومن الواضح أن شيئاً لم يتحقق وأن جل ما يسعى اليه كيري بات تمديد التفاوض.
وفي هذا السياق جاءت انتقاداته للطرفين اللذين حملهما مسؤولية الفشل لكنه اختار الفلسطينيين هدفاً لضغوطه لإقناعهم بالموافقة على مثل هذا التمديد.
المستوطنون الصهاينة والأحزاب التي تمثلهم وتلك التي تدعمهم في الكنيست والحكومة احتفلوا بخبر فشل المفاوضات. أما الفلسطينيون فقرروا المواجهة، في ساحة العدالة الدولية هذه المرة، ولو بواقعية و من دون أوهام . فقد صوتت منظمة التحرير الفلسطينية بالإجماع على قرار توجه دولة فلسطين إلى الأمم المتحدة والانضمام إلى منظمات ومعاهدات دولية مختصة بحقوق الإنسان وبالقانون الدولي . هذا القرار كان له وقع الصاعقة على الحكومة quot;الإسرائيليةquot; التي سارعت إلى الاجتماع واتخاذ قرار بتطبيق لائحة من العقوبات على السلطة الفلسطينية . هذا رغم أن فلسطين لم تقرر بعد الانضمام إلى محكمة الجزاء الدولية، وهو انضمام يسمح لها برفع دعاوى على كبار المسؤولين quot;الإسرائيليينquot; الذين سيضطرون عندها إلى المثول أمام المحكمة المذكورة والتعرض لملاحقاتها وأحكامها.
ربما قررت السلطة الفلسطينية الاحتفاظ بحقها في الانضمام إلى هذه المحكمة كوسيلة ضغط، لكن قرار العودة إلى الأمم المتحدة، رغم كل الضغوط الدولية والأميركية ورغم بعض الأصوات الفلسطينية الانهزامية، يعكس بحد ذاته إرادة فلسطينية بالمواجهة هذه المرة والاستفادة من المناخ الإيجابي الدولي على خلفية حملة المقاطعة الدولية للمستوطنات quot;الإسرائيليةquot; .
التطور الكبير في مسار القضية الفلسطينية حدث في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2012 عندما أضحت فلسطين دولة غير عضو في الأمم المتحدة نتيجة تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة بثلثي أعضائها لمصلحة هذا القرار .كانت المفاجأة وقتها أن محمود عباس قاوم كل الضغوط، لاسيما الأميركية منها والتي اعتبرت ذهابه إلى الجمعية العامة تجاوزاً للخطوط الحمر وتهديداً للمصالح الأميركية، وأن أوروبا التي تعرضت هي الأخرى لضغوط مماثلة صوتت لمصلحة القرار .
وللتذكير، فأهمية أن تكون فلسطين دولة ولو غير عضو في الأمم المتحدة أنه يسمح لها بالانضمام إلى المعاهدات الدولية والاستحواذ على مقاعد في منظمات دولية . وفي طليعة هذه المعاهدات اتفاقات جنيف ومعاهدة روما . كما أنها تجعل من فلسطين بلداً محتلاً من quot;الإسرائيليينquot; في عين القانون الدولي . ما يعني أن كل الممارسات quot;الإسرائيليةquot; غير الشرعية في الأراضي المحتلة تصبح عرضة للملاحقة من قبل محكمة الجزاء الدولية والتي قد تقرر ملاحقة كل شخص معنوي وعادي وكل بلد يعتدي على السيادة الفلسطينية . كما أنها يمكن أن تعتبر كل بلد أو شخص يستفيد من الاحتلال مسؤولاً في نظر القانون الدولي . وقد أثبتت المحكمة المذكورة نجاعتها في هذا المجال عندما جرّمت شركة شل أويل وأجبرتها على دفع تعويضات كبيرة للمزارعين النيجيريين الذين ادعوا عليها بتهمة تلويث دلتا نهر النيجر .
خروقات السيادة الفلسطينية من قبل quot;إسرائيلquot; باتت معروفة من الجميع، والمستفيد من هذه الخروقات يصبح عرضة للمحاسبة، مثل الشركات الأجنبية التي تسهم في بناء البنى التحتية للمستوطنات وتلك التي تضر بالفلسطينيين، بطريقة أو أخرى، جراء أعمالها في quot;إسرائيلquot; .
لقد أجّل الفلسطينيون انضمامهم إلى المعاهدات الدولية بغية إعطاء فرصة للمفاوضات بناءً على الطلب الأميركي . أما وأنه لم يتحقق أي اختراق فيها وبعد فشل واشنطن في ممارسة الضغوط الضرورية على حكومة نتنياهو فإن الخطوة الفلسطينية تأتي في الاتجاه الصحيح ولو متأخرة . والحكومة quot;الإسرائيليةquot; التي سارعت إلى معاقبة الفلسطينيين عليها أن تتذكر كيف تصرفت محكمة الجزاء الدولية مع مجرمي الحرب مثل سلوبودان ميلوسوفيتش .
هذا ما يقوله بعض الحقوقيين الدوليين الذين نصحوا الوزيرة تسيبي ليفني بعدم السفر إلى الخارج إذا ما قرر الفلسطينيون اللجوء إلى هذه المحكمة، والتي وصفها جون كيري ب quot;القنبلة النوويةquot; في إحدى مباحثاته مع محمود عباس . لكن حقوقيين آخرين يرون أن هامش المناروة أمام الفلسطينيين ضعيف جداً في مواجهة صلف الحكومة quot;الإسرائيليةquot; .
هناك سبعة وتسعون بلداً تستثمر في المستوطنات quot;الإسرائيليةquot; ولا تريد أن يتعرض لمشكلات مع القانون الدولي بسبب ذلك . والموقف الأوروبي تغير بالفعل وبدأ يتخذ إجراءات ضد الاستثمار والمتاجرة مع المستوطنات . وكرة الثلج هذه معرضة لأن تكبر مع الوقت، والقرار الفلسطيني الأخير يسهم في ذلك . ويمكن للأميركيين الاستفادة من هذه الظروف (وقد اتهمت quot;إسرائيلquot; كيري بذلك علناً في بداية العام الجاري) بدل مواجهتها . فهي تسمح لكيري باقتراح تسوية تمنع حدوث السيناريو الأسوأ لquot;اسرائيلquot; في مقابل تخليها عن الصلف والتصلب وفرض الشروط المستحيلة، الأمر الذي قد يتلقفه محمود عباس المصر على التفاوض والتفاوض كاستراتيجية لا رجوع عنها، لكنه لم يعد يحتمل الانتقادات والإهانات بسبب عدم الحصول على شيء يذكر من هذا التفاوض.