عبدالله القفاري

هل هناك مجال للشك بأن ما يجري في منطقة المشرق العربي، من العراق الى بلاد الشام.. سيؤدي إذا ما استمر الصراع على هذه الوتيرة الى صناعة دول جديدة على أرض قديمة بمقومات دينية وعرقية وطائفية؟

تبدو خريطة التقسيم اليوم أوضح من أي وقت آخر.. الصراع على مساحة الدول القادمة أو القائمة لا على محاولة استعادة حدود سايكس - بيكو.

القوى المتصارعة - المؤثرة والمتأثرة - في حروب العرب في العراق وبلاد الشام، ثلاث قوى لا غير. تنظيم "داعش" التي تستهدف بناء دولتها، كما اعلنت عن نفسها في اول شهر رمضان بعد سقوط الموصل في يدها وجزء كبير من محافظة ديالى والانبار لتصل العراق بالرقة ودير الزور وابو كمال في شرق سورية.

أما القوة الثانية فهي دولة المالكي التي تسيطر على الجزء الاوسط والجنوبي من العراق، وهي تحظى بتأييد ودعم الولايات المتحدة الامريكية وحلفائها الايرانيين.

أما القوة الثالثة فلن تكون سوى دولة بشار الاسد، التي تسيطر على اجزاء من سورية تمتد من الساحل حتى القلمون على حدود لبنان بعد ان خرجت عن سيطرتها اجزاء كبيرة من سورية من حلب الى الصحراء السورية الى دير الزور والرقة والحسكة وجيوب كثيرة تتفاعل اليوم في حرب طاحنة لازالت فاتورتها الأعظم منذ الحرب العالمية الثانية. وهو نظام لا يمكن له الحياة دون الدعم الروسي والايراني ومساندة مليشيات حزب الله والفرق الشيعية القادمة من العراق وسواه.

ما عدا هذه القوى القادرة على الحسم وغير القادرة ايضا.. تبقى هناك قوى صغيرة مشتتة تحت مسمى الجيش الحر والجبهة الاسلامية في سورية، او المعارضة البعثية والعشائرية في العراق، إلا انها أضعف من ان تصنع نصرا حاسما او تؤثر في سياق بناء منظومة قادرة على تسيير ملامح دولة او كيان. ولذا ربما نشهد خلال الايام القادمة تحالفات جديدة بين هذه القوى.

تثير مجريات الحرب في العراق او سورية الكثير من علامات الاستفهام. تأتي على رأسها تنظيم الدولة الذي اعلن الخلافة على اجزاء واسعة من العراق وسورية. وخلال الاسبوع الماضي خاضت معاركها ضد قوات البشمركة الكردية التي تسيطر على اقليم كردستان العراق، لتنزع منها منطقة سد الموصل وسنجار وغيرها من القرى وبعض حقول النفط.. وتلك اول مواجهة علنية بين دولة البغدادي والاقليم الكردي في العراق. إلا انها تشير إلا ان تطلعات دولة البغدادي أوسع مما يظن البعض.. كما انها تأتي وفق مسار يبدو أنه وفق مخطط يستهدف السيطرة على مناطق استراتيجية.

يتحرك تنظيم الدولة الاسلامية، وفق مخطط يمكن تلمس بعض ابعاده من خلال الصراع الدائر في بلاد الشام والعراق. يستهدف السيطرة على مناطق استراتيجية تتيح له السيطرة على منطقة المثلث العراقي التركي السوري.. كما انه يركز على السيطرة على حقول النفط باعتبارها المورد الاقتصادي الذي يضمن تمويله وقدرته على التمدد وادارة حروبه القادمة.

تأمين خطوط التواصل مع تركيا يضمن له امكانية تأمين خطوط نقل النفط من المنبع، كما انها تؤمن له خطوط الامداد بالسلاح والمال والرجال.

تثير حروب الدولة الرعب من خلال بث رسائل قطع الرؤوس وإعدام العشرات بطريقة وحشية.. فلا اسرى لديها ولا قانون يضبط ممارسات تصل الى أقصى حدود البشاعة والدموية. هذه المشاهد حققت أكبر التأثير في اعدائها او خصومها. وقد حققت ايضا تصورا كافيا عن نزعة هذه التنظيم لممارسة ابشع صنوف الارهاب مع مخالفيه. ويظهر ان الادوات الاعلامية للتنظيم تتعمد كثيرا ان تكشف عن تلك الممارسات فهي اقوى ادواتها اليوم لإضعاف الروح المعنوية وانهاك الخصوم والمعارضين والمقاتلين في الطرف الآخر..

ويظهر ايضا ان هذا التنظيم لا يعتمد على فكرة طرد خصومه فقط، وتسليم المناطق التي يسيطر عليها لحلفائه، وانما يظهر انه يعتمد على قواه الذاتية في ادارة تلك المناطق وتسييره شؤونها، كما يعتمد على ترسيخ قوته فيها من خلال عمل منظم يعتمد تكريس اوضاع تستهدف فعلا رسم ملامح دولة جديدة.

دولة المالكي اليوم ومن خلفها ايران، تركز على حماية مناطق وجودها.. بل تعتمد ايضا على تفريغ المناطق المختلطة من السنة.. سواء من خلال الاغتيالات التي تطال رموزا دينية او سياسية او من خلال عمليات الاجلاء والتهديد المستمرين.. إنها ايضا محاولات تتم ببطء ولكن بفعالية. ما يحدث بالبصرة.. مع حجم التعتيم الاعلامي عليه.. يقدم دلالة واضحة على مهمة تتولى تنفيذها مليشيات طائفية. لا يختلف ما يحدث بالبصرة عما يحدث بالموصل إلا من حيث الكم والكيفية. يكرس تنظيم الدولة فكرة الطائفية الدينية في أكثر صورها ظلما، ويعتمد تصفية المناطق التي يسيطر عليها من الطوائف الاخرى التي لا تستجيب لشروطه.. بينما لا تتردد المليشيات والفرق الشيعية المسلحة من تهجير السنة من مناطق الجنوب عبر سياسة الاغتيالات والترويع والتهديد المستمر.. فالعاصمة بغداد لم يعد يقطنها سوى ما يقارب 13% من السنة بعد عمليات التهجير المتواصلة منذ احد عشر عاما.

اما في سورية فسيظل الساحل السوري حيث الاكثرية الموالية للنظام والطائفة العلوية مصدر ثقة النظام بدولة لا تشكل اكثر من 40% من حجم الدولة السورية المعروفة. وستظل وتيرة الصراع قائمة دون حسم سواء من قبل النظام او الجيش الحر او التحالفات الصغيرة من القوى المسلحة المعارضة. وهذا يوحي بأن مدى الصراع سيطول خاصة مع ثبات وتيرة المدد الايراني والروسي.

ما يثير السؤال أكثر، موقف الولايات المتحدة الامريكية وحلفاؤها الاوربيون من حالة الصراع التي تبدو ملامح التقسيم فيها اوضح من أي وقت سابق.

ما يقوله الساسة الامريكان والاوروبيون لوسائل الاعلام وما ينشر من بيانات، ليس بالضرورة ان يعبر عن حقيقة الموقف. اتخذت الادارة الامريكية قرارها بقصف قوات تنظيم الدولة بعد عمليات نزوح المسيحيين والايزيديين عن قراهم ومدنهم باتجاه جبال كردستان العراق. إلا انه من المشكوك فيه ان تشكل هذه الضربات عامل حاسم لوضع حد لتمدد تنظيم الدولة او اجهاض مشروعها المحاط بكثير من الغموض.

وطالما ان المصالح الامريكية الاستراتيجية بعيدة عن الخطر حاليا، فلا مانع من مراقبة المعركة في العراق والشام. وطالما التكوينات العرقية والطائفية ستحل محل الدولة العربية القطرية التي كانت، فلا مشكلة في التعامل معها ضمن حدود وأطر ترسم ملامحها في الوقت التي تتحرك فيها موازين القوى الاقليمية. وطالما لا تشكل حالة الصراع خطرا على اسرائيل بل انها تضمن حالة صراع طويلة وانهاك متبادل للأطراف كلها فلن تشكل خطرا آنياً يستوجب العمل على اتخاذ قرار مواجهة عسكرية فعالة من نوع ما.

العراق الذي نعرفه لن يعود. وسورية لن تكون سورية.. هناك عدة دول في طور التشكل بعد ان انهار حلم استعادة العراق لكل ابنائه، وبعد ان انهار حلم ان تكون الثورات الشعبية قنطرة عبور في عقد.. ربما كتب المؤرخون عنه يوما انه عقد الاحزان والآلام والدماء والدمار.. كما هو عقد التغييرات الكبرى في المنطقة.
&