عبد الوهاب بدرخان

لم تتبرّع أي جهة، أي حكومة أو جهاز أو مركز أبحاث، بكشف طبيعة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش). صحيح أن مراحل نشأته لمناوءة الاحتلال الأميركي للعراق، ثم امتداده إلى سوريا، صارت معروفة، لكن مصادر سلاحه وتمويله وكذلك عناصر قوته وجاذبيته المتزايدة وقدرته على الاستقطاب والتدريب والاستيعاب، لاتزال مجهولة. عندما أعلن عن إنشاء تنظيم «القاعدة» عام 1998 كان كل شيئ معروفاً عنه تقريباً، بحكم انبثاقه من بيئة «الأفغان العرب» التي قصد معظم عناصرها أفغانستان (بعلم الاستخبارات وبتزكية منها) لـ «الجهاد» ضد الاحتلال السوفييتي، كما أن شخصية أسامة بن لادن ووجوده في أفغانستان خلال أعوام «الجهاد» لعبا دوراً رئيسياً في اجتذاب المتطوّعين.

الأرجح أن «داعش»، الذي بدأ كإفراز من «القاعدة» باسم «القاعدة في بلاد الرافدين» (2004)، حظي ولا يزال يحظى بمساعدات وتسهيلات، حتى أن كثيرين يعتبرونه مجرد «كيان استخباري». وعندما تحوّل إلى «دولة العراق الإسلامية» بعد مقتل «أبو مصعب الزرقاوي» (2006) كان بدأ "يتعرقن"، ورغم أن البيئة السنّية العراقية احتضنته في أعوامه الأولى إلا أن «الصحوات» السُنّية التي بلغت ذروتها عام 2008 دفعته إلى الانكفاء، حتى أنه فقد في عملية واحدة (2010) اثنين من قادته هما «أبو حمزة المهاجر» و«أبو عمر البغدادي». كانت تلك لحظة حاسمة لمواصلة إضعاف التنظيم وتجفيف منابعه، وكانت الوسيلة الأكثر نجاعة الشروع في مصالحة وطنية تنصف السُنّة وتحترم حقوقهم، بموجب الدستور، إلا أن «النجدة» جاءت للزعيم الجديد للتنظيم أبو بكر البغدادي، من حيث لم يتوقع، تحديداً من نوري المالكي الذي كان قطع شوطاً كبيراً في تقسيم «الصحوات» والتمييز في ما بينها، متخلّياً عن معظمها، وزاد إلى ذلك نكصاً في تنفيذ اتفاق أربيل لتقاسم الحقائب الوزارية (ديسمبر 2010)، وأتبعه غداة الانسحاب الأميركي، بنهاية 2011، بحملة منظّمة للتخلص من أقطاب السُنّة وتحجيم أو تهميش من كانوا حتى في عداد حكومته.

في غضون ذلك كانت الأزمة السورية تفاقمت، وزاد تعسكرها، بفعل عنف النظام وإصراره على حل عسكري يُخضع انتفاضة الشعب. ورغم أن العلاقة بين بغداد ودمشق كانت فاترة، إلا أن ارتباط العاصمتين بطهران أوجب تنحية الخلافات والانخراط في تنسيق متعدد المجالات.

كما أن حال الحرب المعلنة بين نظام المالكي و«دولة العراق الإسلامية» لم تحل دون بدء تسرّب عناصر من هذا التنظيم إلى داخل سوريا، وقد تزامن ذلك مع انفجار الخلاف بين المالكي والمحافظات السنّية التي دخلت في اعتصامات سلمية مفتوحة من أجل تحقيق مطالبها.

وعلى وقع هذه الاعتصامات، وفي ذروة زخمها، أعلنت «جبهة النصرة» عن نفسها في سوريا كفرع لتنظيم «القاعدة» مرتبط بالولاء لزعيمها أيمن الظواهري، أما داخل العراق فراحت جماعة «أبو بكر البغدادي» تتقرّب من العشائر وتنسلّ في ثوب الاعتصامات وتكثّف عمليات التفجير ضد سنّة «الصحوات» انتقاماً منها وضد أهداف شيعية.

منذ مطلع 2013، كان فتيل الأزمة العراقية بين يدَي بغداد وطهران، وكان بإمكانهما نزعه لكنهما وجدتا مصلحةً في حل أمني- عسكري لكسر الاعتصامات وإخضاعها. وهذا ما توقعه «البغدادي» الذي كان شرع في نسج تحالفات أو تفاهمات مع العديد من العشائر الناقمة على المالكي، ومع العديد من الجماعات المسلّحة غير الموالية له. وفي الوقت نفسه كان عزّز وجود تنظيمه في سوريا، معلناً إنشاء «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (4 أبريل 2013) ومفجّراً خلافه مع «القاعدة» و«النُصرة». قبل ذلك كان واضحاً أن تنظيم «البغدادي» وجد طرقه مفتوحة وآمنة للتغلغل في المناطق السورية، واستطاع من دون أي ازعاج أن يدبّر هروباً كبيراً لآلاف من أنصاره من سجن التاجي (يوليو 2012) تعزيزاً لعديده، كما أن طوابير سيارات مقاتليه بدت في ما يشبه عراضة سياحية بين البلدين. ثم كان لافتاً ذلك التعايش المنسّق (والموثّق استخبارياً) بين «داعش» وقوات النظام السوري، أما في بغداد فكان التركيز الحكومي على خيام الاعتصامات باعتبارها بؤراً إرهابية أكثر مما كان على «داعش» تحديداً.

عندما أعلن المالكي «الحرب على الإرهاب» في ديسمبر 2013، كان في باله أنها الشعار الأنسب للإجهاز على الاحتجاجات السُنّية، بدليل أن واشنطن ساندته، ووعدت بتوفير أسلحة نوعية، لكنها اشترطت وجود بداية ملموسة لحل سياسي، لكنه سمع الجزء الأول وأهمل الآخر، فراح يدكّ الرمادي والفلّوجة ويمعن في الانتهاكات في عموم مدن المثلث. كان «البغدادي» يتوقّع أيضاً هذا التطوّر وينتظره، وقبل أن تتجمّع عناصر خطّة دولية- إقليمية لضرب تنظيمه كان هو من بادر مباغتاً الجميع في الموصل. وفجأة انتهى التعايش الإيراني- (العراقي)- «الداعشي» والسوري النظامي- «الداعشي» لينقلب إلى حال حرب بلغت وقائعها أقصى درجات الوحشية. وخلال شهرين فقط استطاع «داعش» أن يتوسّع جغرافياً في العراق وسوريا، كما لم يفعل منذ نشأته، وسط ارتباك وعجز غير مسبوقين في مختلف عواصم المنطقة. وليس معروفاً مدى فاعلية الضربات الجوية الأميركية، غير أن واشنطن سجّلت لتوّها «خطأً» اذ لم تهتم ولم ترَ الخطر «الداعشي» عندما دهم عموم السوريين والعراقيين لكنها حرّكت مقاتلاتها فقط عندما صار خطراً على الأقليات، وهذا يرسم مجدداً علامات استفهام حول نيات أميركا وأهدافها.
&