محمد كريشان

من كان يتخيل قبل بضعة أشهر أن يكون هناك وفد فلسطيني موحد يتفاوض على وقف لإطلاق النار يرأسه قيادي في حركة «فتح» ويتركب من قيادات من «حماس» و «الجهاد الإسلامي» و غيرهما من الداخل و الخارج؟!! من..؟؟!! لو لا هذا الدم الطاهر الذي سال بغزارة في غزة.


ولأن الثمن كان غاليا وجب التشبث بكل قوة بهذا المكسب الذي ما كان له أن ينجز عبر حسن النوايا دون غيرها. و مثل ما كان لحكومة التوافق الفلسطينية أن ترى النور لولا شعور طرفي المعادلة الرئيسيين، فتح و حماس، بأنهما في وضع صعب وسط هذه الظروف العربية الاقليمية المهترئة، فإن هذا الوفد المفاوض في القاهرة، الذي يعتبر إنجازا كبيرا حالت كآبة المشهد بعد العدوان الاسرائيلي على الاحتفاء به، ما كان له أن يكون لولا شعور الجميع بأن الشعب الفلسطيني جابه عدوان غزة موحدا في الضفة و القطاع و الشتات وواجهته بنفس الصلابة جميع الفصائل دون استثناء.


الوفد الفلسطيني المفاوض الآن في القاهرة «بروفة» سيشعر من خلالها كل الفرقاء أن ما يجمعهم أهم بكثير مما فرقهم، بل إنه لا يوجد أصلا ما يفرقهم طالما أن مصائب الاحتلال واحدة. إنها بروفة ستعلمهم تدريجيا فضيلة التوافق والبحث الدائم عن المشترك. سيجد من تمرس على المفاوضات أن له سندا في من لا يقتنع بغير المقاومة. وسيجد هذا الأخير أن ليس كل شيء تحسمه البندقية. لقد أعاد العدوان على غزة رشدا أضاع الفلسطينيون الكثير منه في سنوات خلافاتهم، ودفع في النهاية بجميع الفصائل إلى التحرك الناضج المشترك بظهر مسنود من التأييد الشعبي الداخلي والعربي والدولي الكبير رغم فداحة الخسائر.


ما جرى في غزة وما أعقبه من محادثات الآن في القاهرة رسـّـخ قناعات و بدّد أخرى. رسخ حقيقتين لا بد من إنضاجهما باستمرار:
أولا: حتمية الوحدة وتكامل الأدوار. كان ذلك صحيحا دائما و لكن الفلسطينيين اليوم هم أحوج ما يكون له. يفترض أن لا تناقض أبدا بين أن تتواصل الاتصالات الدولية و الدبلوماسية التي تجريها القيادة و بين أن تستمر المقاومة سواء تلك التي تتخذ أشكالا شعبية أو تلك التي تلتجئ إلى السلاح عندما لا يكون هناك مفر من ذلك. أما ترتيب أولويات هذه الأشكال فتقرره ظروف كل مرحلة. هكذا كانت كل حركات التحرر في العالم و لن يكون الفلسطينيون استثناء. ستحتاج القيادة دائما لمقاومة تسند ظهرها وتقوي كلمتها وستكون هذه المقاومة في حاجة دائمة لواجهة دولية ستلتحق بها تدريجيا في يوم من الأيام.


ثانيا: جعل الإحتلال لا يطاق. لا مفر من جعل تكلفة الاحتلال للضفة الغربية وقطاع غزة مرتفعة بدرجة لا تقوى إسرائيل مع الأيام على تحملها. هنا لا معنى لمقارنة خسائر المحتل بخسائر من يقاومه و إلا لكان على الثورة الجزائرية أن تــُــلعن إلى اليوم لأنها تسببت في موت أكثر من مليون شهيد.


لن ترحل إسرائيل أبدا عن الضفة ومحاصرة القطاع إذا لم تدرك بأنه لم يعد لها ِقبل بتحمل حجم الخسائر من أمنية و اقتصادية ومن سمعة دولية تزداد تراجعا. القضايا الدولية لا تكسب فقط لأنها عادلة بل لأنها باتت مكلفة وما من قدرة إضافية على التحمل. هكذا انتصرت كل قضايا التحرر في العالم من فيتنام إلى الجزائر إلى جنوب افريقيا إلى تونس التي كان زعيمها الحبيب بورقيبة يراهن باستمرار على الدبلوماسية لكن المقاومة لم تسلم سلاحها إلا مع شروع الإحتلال في الرحيل. لا رجاء من مفاوضات تريدها إسرائيل بلا نهاية و لا أفق لمقاومة إذا تجردت تماما من أن تأخذ في الاعتبار كثيرا من الإكراهات الإقليمية و الدولية .


أما ما بدده عدوان غزة فهو بالتأكيد التعويل في الظرف الحالي على أي حاضنة عربية تسند المقاومة وتشد من أزرها. اهترأ النظام العربي بالكامل تقريبا حتى بات الكارهون لحماس و ما تمثله متآمرين على الفلسطينيين بشكل أو بآخر بغض النظر إن كان وجد قرار رسمي بذلك أم ان الأمور سارت في النهاية بما يثلج صدور الإسرائيليين. أما الحكومات الغربية من الولايات المتحدة إلى كل حلفائها الغربيين، بما في ذلك فرنسا التي لم تعد فرنسا التي نعرف، فكلها أثبتت تفوقا على نفسها في النفاق و لي الحد الأدنى من قواعد الإنصاف، فيما تظل المفاجأة حيوية الرأي العام في هذه الدول. لقد أثبت المظاهرات في كثير من عواصم العالم الكبرى ومواقف المشاهير فيها، فضلا عن روعة المواقف الشعبية والرسمية في أمريكا اللاتينية أن الإنسانية ما زالت بخير. أجواء من الصعب أن تستمر وتقوى إذا لم يستمرالفلسطينيون في الوحدة و المقاومة بجميع صورها.