توفيق رباحي

بصعوبة أصدّق ان الباجي قايد السبسي مرشح للانتخابات الرئاسية في تونس ويفرط في التفاؤل بالفوز بها.


تتزامن الانتخابات المقبلة مع احتفال قايد السبسي بعيد ميلاده الثامن والثمانين. إذا فاز بها حقاً وأتمّ ولايته، سيغادر قصر قرطاج وعمره 93 عاما.


لا يمكن إنكار أن الرجل حافظ على قدراته البدنية والذهنية، ويزداد دهاء وحنكة يوما بعد يوم. لكن لا يمكن تغافل أن فوزه بالرئاسة لن يكون ناصعا وجميلا بحق تونس والتونسيين.


لا مشكلة لديّ مع العمر. هي الحياة هكذا. عندما يبلغ المرء العشرين يقول: حمدا لله لست في الثلاثين. وعندما يبلغ عتبة الثلاثين يقول: حمداً لله لست في الأربعين. وفي الأربعين يحمد ربه لأنه ليس في الخمسين.. وهكذا يمضي قطار العمر متجاوزا المحطات واحدة تلو الأخرى.


يترشح الباجي قايد السبسي للرئاسة في الثامنة والثمانين، بينما ثلثا سكان تونس دون الثلاثين، وفق الاحصاءات. يترشح في هذا الغمر وأمريكا يحكمها رئيس في الخمسين، وبريطانيا رئيس حكومة في أواخر الأربعينات، وإيطاليا رئيس حكومة في بداية الأربعينات، ويستقيل رئيس حكومة في السويد في التاسعة والأربعين بعد أن قضى ثماني سنوات في الحكم، ويقود استراليا رئيس حكومة في منتصف الأربعينات.


كنت طفلا أسمع والدي يستعرض معارفه السياسية المتواضعة فيذكر اسم الباجي قايد السبسي والهادي نويرة وأحمد بن صالح والباهي الادغم وأحمد بنور والحبيب بورقيبة وغيرهم. استقر الاسم في ذاكرتي لكن لم يخطر لي التفكير أنه بعد أربعة عقود سيترشح قايد السبسي لانتخابات رئاسية أتابعها وأكتب عنها صحافيا.


تمنيت أن أسأل قايد السبسي فقط عن السبب الذي يجعله في هذا العمر يترشح لرئاسة بلد مثقل بالهموم يحتاج إلى معجزات وقدرات خارقة للعادة. لا عن برنامجه الرئاسي ولا عن مشاكل تونس ولا عن مفاتيح الحلول التي يحملها.. فقط عن سبب (أو أسباب الترشح) وهو ينتمي عمراً وسياسة وثقافة إلى فترة قامت عليها ثورة شعبية ولفظتها.


حتما سيقول إن العمر ليس مشكلة طالما حافظ المرء على قدراته الجسمانية والعقلية، وانه حالما يشعر ببدء فقدان هذه القدرات سينصرف إلى بيته في صمت واحترام للذات.


وحتما سيتبرأ من بورقيبة وبن علي وقول إنه كان في الماضي في خدمة الدولة لا النظام، وانه تحمل مسؤوليته بشرف وشجاعة، وانه لم يذنب في حق احد وان من لديه عليه دليلا فليأت به.


وحتما سيقول إن الوطن يحتاج إليه وإلى خبرته وحنكته. وسيتحدث عن الخطر الذي تواجهه تونس، وعن أن الواجب الوطني والشعور بالمسؤولية يمنعانه من البقاء في بيته، وانه لا يترشح إلا لخدمة الوطن والشعب لأنه يشعر أن ذلك واجبه.


هذا خطاب صالح في كل زمان ومكان (من المنطقة العربية). سيقوله اليمني علي عبد الله صالح وزين العابدين بن علي وعبد العزيز بوتفليقة وغيرهم من قادة سياسيين وعسكريين قادوا هذه المنطقة بثبات إلى ما هي فيه من خراب وتخلف.


في ريبع 1991 سرت في الجزائر إشاعات عن قرب تعيين السيد سيد أحمد غزالي رئيسا للحكومة وقد كان يومها وزيراً للخارجية. التقيتُ الرجل مع بضعة صحافيين فسألته عن الإشاعة. قال: «أريد أن اذهب إلى بيتي وأرتاح. تعبت، زوجتي وأولادي ما شبعتهمش. لا أريد منصبا».


بعد ثلاثة اشهر حدث إضراب جبهة الانقاذ وسقطت حكومة مولود حمروش. صدقت الإشاعة وبدل أن يذهب السيد غزالي إلى بيته، اتجه نحو قصر الحكومة ليصبح رئيس وزراء. سئل فقال: بلدي في خطر واحتاجني، والشعور بالمسؤولية يمنعني من رفض التكليف.. وغيره من الكلام المشابه الذي سيقوله قايد السبسي.


في ذروة الاحتلال العراقي للكويت سنة 1990 زرت وزير النفط الأسبق عبد السلام بلعيد في شقة فارهة بأعالي العاصمة. تحدثنا عن الحرب وأثرها على أسواق النفط وغيره. طال الحديث ساعات تخللها سؤال من نوع: هل تعود إلى المسؤولية لو طلبوا منك، فرد: «أعوذ بالله.. قدمت ما استطعت ولا أريد شيئا الآن. أنا مرتاح وفي أفضل حال، ولا يهمني كرسي ومسؤولية».


بعد نحو سنتين تولى الرجل رئاسة الحكومة في أكثر ايام الجزائر سواداً وديكتاتورية ـ وكان إحدى أذرعها. عاد بالبلاد 30 سنة إلى الوراء وغادر بعد سنة واحدة غير مأسوف عليه. سئل آنئذ فقال: بلادي احتاجت لي وهي في خطر، الشعور بالمسؤولية تجاه الوطن يمنعني من الرفض. والكلام ذاته الذي يحق لقايد السبسي أن يقوله اليوم.


قايد السبسي محسوب على الفترة «البورقيبية»، وبدرجة أقل على «البنعلية» (نسبة إلى الرئيس المخلوع بن علي). وعليه يتحمل، بشكل أو بآخر نصيبا من المسؤولية في الأسباب التي قادت إلى الثورة على نظام الحكم في 2011.
حتى لو لم يكن ضالعا بشكل مباشر، فنصيبه يقع في قسم المسؤولية المعنوية والأخلاقية. نفسياً لا يمكن أن ينسج الرجل مع ما بعد ثورة 2011.


دستوريا وسياسيا، من حقه أن يترشح ويحلم بالفوز. أخلاقيا ورمزيا، كان يجب أن يدرك ويقتنع بأن ثورة 2011 قامت عليه وعلى ما يرمز إليه اسمه وحقبته.


قد لا يليق القول إن ترشحه وفوزه (إن حصل) سيكون ردّة أو انقلابا على ثورة 2011، لكنه لن يبعث بأمل كبير وإشارات مضيئة كثيرة. وإذا ما فاز، لا غرابة أن يأتي يوم يطلب فيه أحدهم من التونسيين الاعتذار للمخلوع بن علي.