عبد المنعم سعيد

لا يوجد برنامج سياسي تلفزيوني أو صحيفة في الولايات المتحدة، إلا ويوجد فيها لمسة من نوع أو آخر لها علاقة بالانتخابات الرئاسية الأميركية. من الناحية العملية فإن الرئيس باراك أوباما لا يزال أمامه عامان في السلطة أو في الإدارة كما جرى الاصطلاح الأميركي؛ ومع ذلك فإن الحرب السياسية على قدم وساق، وأداتها عمليا الإعلام الذي أصبح متعصبا ومتعنتا وضيق الأفق أكثر من أي وقت مضى، منذ وطئت أقدامي العالم الجديد في نهاية سبتمبر (أيلول) 1977. الديمقراطيون يرون أنهم أصحاب الحق الشرعي في حكم الولايات المتحدة، ليس فقط لأن توماس جيفرسون - الأب الروحي للحزب - هو الذي كتب إعلان الاستقلال الأميركي؛ وإنما لأن تغيرات ديموغرافية كثيرة جرت في التركيبة الأميركية تعطي الحزب ميزة في الأصوات. فالمهاجرون من دول أميركا الجنوبية، سواء جاءوا بطريقة شرعية أو غير شرعية، أصبحوا نسبة يعتد بها من الشعب الأميركي، بحيث حلوا محل الأميركيين من أصول أفريقية كأكبر الأقليات. هؤلاء ميولهم الديمقراطية كبيرة، ومنذ انتهاء الحرب الباردة، فإن النزعة الجمهورية لديهم والتي تقضي بحصار كوبا وحتى غزوها تراجعت. وللحق فإن أوباما لم يأل جهدا من أجل كسب أصوات هؤلاء. ويعد قرار إعادة العلاقات الدبلوماسية مع كوبا دعما لهذا الاتجاه؛ ولكن الأهم منه كان قانون الهجرة الذي وضعه الرئيس الأميركي ويعطي الجنسية لنحو 4 ملايين مهاجر غير شرعي، ولكنه مقيم إقامة حسنة في الولايات المتحدة لمدة طويلة.


الجمهوريون من ناحيتهم يحاولون المحافظة على قاعدتهم الأصيلة في الجنوب، وولايات جبال الروكي من خلال معارضة قانون الهجرة، والجيوب المحافظة التي توجد في المدن الصناعية الكبرى في الشمال وهي التي أعطتهم الأغلبية في مجلسي الكونغرس: النواب والشيوخ. هذه الأغلبية أعطتهم فرصة كبيرة من الصعب إضاعتها، حيث لديهم سلطة التشريع من ناحية، وقدرة إحباط تشريعات أوباما من ناحية أخرى. ولكن أهم أسلحة الجمهوريين هي انخفاض شعبية أوباما إلى أقل مستوى منذ توليه الرئاسة. والمدهش أن هذا الانخفاض يأتي في وقت يتوقع فيه زيادة هذه الشعبية. فالرجل أثبت أن لديه «العصب» والقدرة على اتخاذ قرارات تستخدم فيها القوة المسلحة، حينما بدأ في تشكيل التحالف الدولي المضاد لإرهاب «داعش» بعد أن كان الانطباع السائد عنه أنه الرئيس الضعيف الذي انسحب من العراق وأفغانستان قبل إتمام النصر الأميركي، أو هكذا يروج الجمهوريون. وما لا يقل أهمية كان إنقاذ الاقتصاد الأميركي الذي بدأ في الانهيار في شهر سبتمبر 2008 قرب نهاية فترة الرئيس جورج بوش الابن، ومن بعده عاشت أميركا في كابوس الانكماش الاقتصادي على مدى عامين قبل ظهور ضوء في نهاية النفق، ما لبث أن أصبح شمسا ساطعة حينما دخل الاقتصاد الأميركي في دورة من النمو جعلته بقعة ساطعة في الاقتصاد العالمي المتراجع.


المدهش أيضا أن شعبية أوباما تراجعت بعد أن حقق لأميركا حلما عجزت كافة الإدارات الأميركية السابقة عن تحقيقه، وهو تحقيق الاستقلال الأميركي في إنتاج الطاقة. فعلى عكس الاتجاه الذي ساد خلال الثمانينات من القرن الماضي من تراجع الإنتاج النفطي للولايات المتحدة إلى نحو 5 ملايين برميل يوميا، أخذ هذا الإنتاج يتزايد خلال حكم أوباما حتى وصل إلى 8.5 مليون برميل، ومن المنتظر أن يزيد هذا الإنتاج مليونا آخر خلال هذا العام. هذه الزيادة لم تكن فقط نتيجة عوامل اقتصادية أو حركة السوق الحرة، وإنما جاءت نتيجة تخطيط استراتيجي محكم قامت به إدارة الرئيس أوباما منذ توليه السلطة في عام 2008 لتحقيق واحد من الأهداف الاستراتيجية للقيادات الأميركية المتعاقبة منذ السبعينات من القرن الماضي للتخلص من «التبعية» والاعتماد على النفط الشرق أوسطي (العربي أساسا). ورغم أن الرئيس أوباما مصنف في السياسة الأميركية باعتباره ليبراليا، وأحيانا اشتراكيا، فإن سياسته إزاء الطاقة تبنت رؤى المحافظين الأميركيين من حيث فتح الأبواب لاستخراج النفط الصخري، وفتح مناطق واسعة في ألاسكا، وتسهيل عمليات الاستكشاف في القطب الشمالي، رغم كل الدفوع بالأضرار المتعلقة بالبيئة. وبالإضافة إلى ذلك قام بتحفيز استغلال الطاقة الشمسية من خلال دعم البحث العلمي وتقديم الدعم النقدي لتصنيع الخلايا الضوئية، وفوق ذلك كله تقديم الدعم لشركات السيارات لإنتاج عربات إما أنها قليلة الاستخدام للنفط أو أنها تستخدمه مع وسائل أخرى مثل الغاز الطبيعي أو الكهرباء.


لماذا إذن تنخفض شعبية أوباما رغم هذه الإنجازات، ورغم تغييرات جوهرية في التركيبة السكانية الأميركية؟ المسألة تبدو لغزا، وتفسير أوباما له طبيعة إعلامية؛ حيث يرى أنه لم يشرح جيدا ما قام بتحقيقه، وهي حجة غير مقنعة. الجمهوريون من ناحيتهم يدقون على حقيقة أنه آن أوان «التغيير» وهي فضيلة أميركية تجعل من تداول السلطة بين الحزبين الرئيسيين وسيلة لتجديد النخبة والأفكار معها. كذلك فإن انتصارات أوباما كلها تتحول إلى هزائم إذا ما وضعت في إطار آخر؛ فالانسحاب من العراق، والآخر القادم من أفغانستان ترك الأولى دولة فاشلة؛ والثانية على أبواب الفشل على ضوء التقدم الذي تحرزه طالبان. وما يبدو وكأنه قدرة على اتخاذ قرارات عسكرية صعبة، يعكس الضعف في أجلى صوره عندما يكون التدخل بالقوات الجوية فقط، بينما يظن كل صاحب خبرة أن الحرب ضد الإرهاب لا تكون إلا بقوات على الأرض. أما حالة الازدهار في الاقتصاد، وهذه لا يمكن إنكارها، فإنها جاءت بتوزيع مختل للثروة أضر بالطبقة الوسطى الأميركية، فضلا عن الإضرار بالشرائح الفقيرة. وأخيرا فإن الازدهار النفطي كان نتيجة الأفكار المحافظة، الجمهورية، في الأساس.


هذه المعركة الإعلامية حتى الآن بدأت تتشكل حول نواة سياسية صلبة تدور حول هيلاري كلينتون في الحزب الديمقراطي، وجيب بوش في الحزب الجمهوري. تحول الإعلام إلى أشخاص ومواقف محددة لهؤلاء، تجعل المعركة زائفة إلى حد كبير من زاوية ما هو الجديد إذن في السياسة الأميركية؟ هيلاري ليست جديدة على الساحة منذ كانت السيدة الأولى للرئيس بيل كلينتون، واستمرارها إلى جواره بعد ذلك وهي عضو في مجلس الشيوخ حتى قضائها فترة رئاسية مع أوباما كوزيرة للخارجية؛ وجيب بوش هو جزء من عائلة بوش السياسية، والتي جرى استخدام وتسويق جورج بوش الأب طوال العام الماضي من أجل ليس فقط تحقيق اللمعان للابن الثاني، وإنما التأكيد على خبرة أصيلة ومتوارثة. هل انتهت المعركة لكي تكون بين عائلة كلينتون وعائلة بوش، وهل تمثلت فيهما وحدهما الأفكار الديمقراطية والجمهورية، أم أنه على الطريق سوف يتقدم مرشح آخر يكون مفاجأة الانتخابات القادمة؟!