عرفان نظام الدين

هواجس كثيرة وأسئلة متقاطعة تدور في كل مكان عن "الهبّة" الوطنية الفلسطينية المتجددة والظروف المحيطة بها وإمكانات نجاحها في كسر الجمود الحاصل وتحريك جهود السلام ولفت انتباه العالم إلى أخطار ترك الحبل على غاربه لإسرائيل لتعربد وتهوِّد كما تشاء، وتضم وتقضم الأراضي الفلسطينية، وتقتل وتذبح وتكسر عظام الشباب المناضل وتأسر المئات من أبناء الشعب الأبي الذي أثبت أنه لم ولن ينكسر للصهاينة، ولن يحني رأسه في وجه آلة الظلم والإجرام الإسرائيلية.

&

هل هذه "الهبَّة" هي بداية انتفاضة ثالثة تكمل ما بدأت به الانتفاضاتان السابقتان، وما حققتاه لاستعادة الهوية الوطنية الفلسطينية؟ وهل جرى الإعداد لإنجاحها والصمود والتخطيط لاستمراريتها مهما بلغت حدة القمع الإسرائيلي؟ وهل العالم مهيّأ للقيام بجهود جدية لإحلال السلام؟ وهل أدركت الدول الكبرى، وبخاصة الولايات المتحدة، أن عدم إيجاد حل نهائي لأزمة الشرق الأوسط سيؤدي إلى اضطرابات كبرى وانتشار التطرّف الذي سيطاول مصالحها وأمنها القومي؟ وماذا عن الواقع الفلسطيني المتشرذم وغياب القيادة القادرة على حماية الانتفاضة وتوحيد الصفوف وإنهاء مأساة التقسيم المخزي بين الضفة وغزة والخلاف المدمر بين "فتح" و "حماس"؟

&

كل هذه الأسئلة تندرج في إطار التوقيت في ظل الأوضاع العربية المتهالكة والفتن القائمة والحروب الممتدة من سورية إلى العراق واليمن، مروراً بمصر المنهمكة بحربها على الإرهاب، ما يعني أن المفاصل الرئيسة للأمة إما متفككة أو مهددة أو منشغلة بحصاد النكبات؟

&

أسئلة محيرة لا يملك أحد الإجابة عنها وفتح نافذة تفاؤل أو التلويح ببارقة أمل، إلا سواعد شباب فلسطين وشاباتها وأطفالها الذين أثبتوا للعالم كله، وللصهاينة خصوصاً، أنهم شعب لا يُقهر ولا ينسى ولا يسامح بعد 67 سنة على النكبة الكبرى.

&

ولم أجد أمامي في المناسبة مثالاً للأخوة الفلسطينيين أفضل من تجربة المجاهدين الجزائريين في نضالهم المشرّف لطرد المستعمر الفرنسي وإنجاز الاستقلال التام. فقد سُئل الرئيس الجزائري الأول الراحل أحمد بن بيلا عن سر انتصار "جبهة التحرير الوطنية" بعد عشرات السنين من النضال، فحدد مبادئ رئيسة تصلح أن تكون نبراساً للفلسطينيين ولكل مناضل ضد الاحتلال والظلم والقمع. هذه المبادئ هي:

&

- التزام الجبهة بوحدة الصف والمصير ونبذ الخلافات والتمايز العرقي والاجتماعي من أجل تحقيق الهدف الأساس، وهو التحرير الكامل مهما طرأ من حوادث، والصمود في وجه الترهيب والترغيب ومحاولات الإيقاع بين أطراف الجبهة التي تنتمي إلى مشارب واتجاهات وخلفيات متعددة.

&

- ضمان التزام الجماهير بالإقناع والتوجيه وإحياء الروح الوطنية لدعم الثورة والتضحية في سبيلها، وأذكر على سبيل المثال ما جرى عندما قرر الثوار منع التدخين لأن مردوده يذهب إلى جيوب المستعمر، إذ التزم الشعب بكامله باستثناء قلة عوقبت بجدع أنوفها لتكون عبرة. وحصل الأمر ذاته بالنسبة إلى منع شراء الخبز من الأفران التي كانت ملكيتها تعود إجمالاً إلى الفرنسيين، فالتزم الجزائريون وعمدت النساء إلى تحويل منازلهن إلى أفران تلبي الحاجة إلى الخبز والمعجنات وتوجه ضربة ثانية إلى اقتصاد الاستعمار.

&

- إحياء المشاعر الدينية والدعوة إلى الجهاد رداً على مخططات الفرنسيين بلا تطرف ولا غلو، كما نشهد حالياً في ديارنا.

&

- الاعتماد على الإعلام وإشراك المثقفين والأدباء في الدفاع عن عدالة مطالب الثورة في شكل موضوعي مع العمل على كسب الإعلام العربي والمصري بالذات الذي كان رائداً.

&

- مخاطبة الرأي العام الفرنسي، ومن ثم الغربي، بأسلوب حضاري وباللغة التي يفهمها وكسب تعاطف كبار المثقفين الفرنسيين، وخصوصاً اليساريين والتقدميين.

&

هذه المبادئ نتمنى أن يلتزم بها الفلسطينيون في مواجهة إسرائيل لكسب التأييد لقضيتهم وحقوقهم المشروعة لأن ما شهدناه خلال السنوات الماضية في فلسطين والدول العربية كان مغايراً لها: فرقة وتشرذم، خلافات وأزمات، اضطرابات وحروب، فتن طائفية ومذهبية، اتجاهات تقسيمية، مصالح شخصية، فساد وهدر، تخريب المؤسسات بدل إصلاحها، تخاذل واستكانة، وعدم خجل بعضهم من التعامل مع العدو وشراء منتجاته وبينها المصدرة من المستعمرات الاستيطانية التي حظرت دخولها معظم الدول.

&

كل هذا يحصل فيما العدو يوحد صفوفه ويضرب ويعربد بلا رادع ويهدد المسجد الأقصى المبارك تمهيداً لهدمه وإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه، والعرب والمسلمون يغضون الطرف وكان الأمر لا يعنيهم رغم معرفتهم التامة بقدسيته، وهو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين وموقع الإسراء والمعراج.

&

وقد يقول قائل إن الأمر يختلف بين فرنسا وإسرائيل ويجيب كل من تابع تاريخ الثورة الجزائرية أن العكس صحيح، إذ يكفي القول ان فرنسا كانت تعتبر الجزائر جزءاً لا يتجزأ من أراضيها وأقدمت على ما لا يوصف من قمع وإجراءات لفرنستها وعملت على تغيير التوازن السكاني بتوطين مئات الألوف من الفرنسيين والسيطرة على كل المرافق الحيوية ومصادرة الأراضي الزراعية. أما عمليات القتل والاعتقال والترغيب والترهيب والإبادة الجماعية، فلا تعد ولا تحصى حتى أصبحت الجزائر تعرف ببلد المليون شهيد.

&

هذه المقدمة رأيت فيها أهمية خاصة لمناسبة "هبّة" إخواننا في فلسطين المحتلة دفاعاً عن مقدساتهم، وفي مقدمها المسجد الأقصى المبارك، والتصدي للصهاينة ومنع تنفيذ مؤامرتهم لهدمه عبر الخطوة التقسيمية التي تحاول فرض جداول زمنية للصلاة فيه بين المسلمين والمستعمرين، فيما العرب وبليون ونصف البليون مسلم غير آبهين أو غير مدركين لحجم الخطر الذي لا نجد له تعبيراً عن الأسف إلا باستعارة بيتين من قصيدة للشاعر العربي الكبير الراحل عمر أبو ريشة قال فيهما:

&

رب وا معتصماه انطلقت... من أفواه البنات اليتم

&

لامست أسماعهم لكنها... لم تلامس نخوة المعتصم

&

والأمل بأن يفيق العرب لنصرة المرابطين في الأقصى والمناضلين في القدس الشريف وفلسطين المحتلة رغم أن ربيعهم جاء في وقت عصيب يعيشه الخريف العربي. فمن العيب أن نتركهم يذوقون شتى أنواع العذاب ونحن نتفرج عليهم، وأحياناً نذرف الدموع ثم ننام ملء أجفاننا.

&

فما يجري الآن هو بدايات انتفاضة ثالثة أو بروفة لربيع عربي نأمل بأن يفتح باب الفرج واسترجاع الحقوق، لأن الانتفاضتين السابقيتين حققتا للفلسطينيين ما لم تحققه كل الحروب والمواجهات والمبادرات، والمهم ألا يستفرد العدو بهم ويتمكن من قمعها وألا يقدم أحد، أو جهة فلسطينية، على عمل متهور يشوّه صورة الانتفاضة، بل من غير المستبعد أن يقدم العدو نفسه على عمل إجرامي لإلحاق الأذى بالفلسطينيين بتحميلهم مسؤوليته وتحويل المناضلين الشرفاء إلى إرهابيين.

&

فالمواجهة مع العدو لا تتم إلا بالعقل والحكمة. وهذا ما رمى إليه مهندس الانتفاضتين الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد)، بالمشاركة مع قيادات "فتح"، وعلى رأسهم الشهيدان ياسر عرفات وصلاح خلف (أبو أياد) والمرحوم خالد الحسن... وغيرهم من المجاهدين. فقد أرادوها انتفاضة سلمية لا تملك إلا الإرادة وأطفال الحجارة، ما أدى إلى حدوث تغيير جوهري في العالم نحو الاعتراف بحقوق الفلسطينيين وهويتهم الوطنية. ولولا هذه الإنجازات لما وصلوا إلى المحافل الدولية، وكان آخرها رفع العلم الفلسطيني أمام مبنى الأمم المتحدة. إلا أن هذه الأهداف تبقى حلماً حوّله بعضهم إلى كوابيس بسبب الانقسامات الفلسطينية وتشرذم الفصائل وصراعات داخل البيت الواحد، من "فتح" إلى الجبهات الشعبية. وجاءت الضربة القاصمة في الخلاف بين "فتح" و "حماس" وصولاً إلى فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، فيما العدو يشن الحروب ويبني المستعمرات ويهوِّد من دون أن يفرق في إجرامه بين فلسطيني هنا وفلسطيني هناك.

&

ولا بد من التحذير من أن استمرار هذا الصراع المؤسف وعدم التوصل إلى مصالحة حقيقية ونهائية والمضي في تغليب الأنانيات والأحقاد سيؤدي إلى إجهاض أي تحرك ضد العدو بسبب عدم الاقتداء بالثورة الجزائرية، وأي ثورة عادلة تؤكد أنه ما ضاع حق وراءه مطالب، وأنه يجب عدم الركون إلى مبادرات خارجية أو الشكوى من المؤامرات.

&

على رغم كل ما حصل للعرب خلال العقدين الماضيين، من تشرذم وفرقة وفتن، فإن هناك من يلقي اللوم على الآخرين ويكرر الحديث عن مؤامرة كونية أو عن أصابع أجنبية. نعم، هناك مطامع أجنبية، وهناك مصالح تسعى الدول إلى تأمينها على حسابنا، لكن المسؤولية تقع على عاتق العرب من القمة إلى القاعدة، بسبب التقاعس والتخاذل والخضوع لإرادة الدول الكبرى والبعد عن الإيمان الذي يستند إلى ما حمَّلنا الله عز وجل مسؤوليته، وهو قوله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة" و "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَّقوا" و "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم".

&

بدل الاعتصام بحبل الله، دأب العرب - ومعهم الإخوة الفلسطينيون - على الإمعان في الغي والسير نحو حافة الهاوية والمساهمة في تعميق الهوة بين أبناء الأمة الواحدة والتحول إلى أدوات لتنفيذ المؤامرات، عن غباء أو عن قصد وتعصب وأحقاد، وتلك مصيبة، أو عن تآمر ومعرفة بالعواقب، وعندها تكون المصيبة أعظم. ولا نملك إزاء هذا الواقع إلا أن نتوجه إلى الله تعالى بدعاء: "ربنا لا تؤاخذنا بما فعله السفهاء منا... وبنا".
&