أرشد هورموزلو

توجه أكثر من خمسين مليون مواطن تركي إلى صناديق الاقتراع لانتخاب أعضاء مجلس الشعب بعد خمسة أشهر من الانتخابات السابقة التي لم تسفر عن فوز أي من الأحزاب المشاركة في نيل الغالبية كما أخفقت هذه الأحزاب في تشكيل حكومة ائتلافية.

&

وقد فاقت نسبة المشاركة في التصويت 85 في المئة من مجموع الناخبين المسجلين بما في ذلك حوالى الثلاثة ملايين مواطن يعيشون خارج تركيا، وهذه النسبة هي بكل المعايير العالمية أكثر من عالية. لقد أصرّ المشاركون على توجيه الرسالة الشعبية في هذه الانتخابات بحيث يستطيع الباحث أن يقرأ مضمون هذه الرسالة بكل وضوح.

&

ومثلما يحدث في أي انتخاب فإن من الضروري البحث في خفايا هذا التصويت وما يهم الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة منه. والرسالة الواضحة أن الناخب التركي تراجع عن قراره في 7 حزيران (يونيو) الماضي عندما لم يمنح أي حزب الأكثرية المطلقة في الانتخابات رغم اختياره حزب «العدالة والتنمية» كحزب أول.

&

الواضح أن نسبة التصويت لحزب «العدالة والتنمية» تساوي نسبة التصويت لكل الأحزاب الأخرى الممثلة منها في البرلمان وغير الممثلة، والسبب الرئيسي كما قرأه الناخبون والسياسيون معاً أن الشعب يريد الاستقرار في حكومة ينفرد بها حزب واحد لعدم الخوض في مشاكل الحكومات الائتلافية التي لا يمكن أن تحقق الاستقرار حتماً.

&

الأمر الآخر أن حزب «الشعوب الديموقراطي» الذي حصل على نسبة تقارب 14 في المئة وتم تمثيله بثمانين نائباً في البرلمان قبل خمسة أشهر من الانتخابات المبكرة قد تناقص حجم التأييد له إلى ما يفوق العشرة بالمئة بقليل أي أنه اجتاز سقف النسبة المطلوبة بالكاد. والواضح أن السبب في ذلك يعود إلى انصراف الكثيرين من الناخبين الأكراد المحافظين عن التصويت لهذا الحزب واتجاههم لحزب «العدالة والتنمية» بسبب تخلي حزب «الشعوب الديموقراطي» عن مقولته الجامعة التي تعتبر المواطنة عنصراً أساسياً في سياسته وتحدى الرأي العام بأنه يمثل الصوت الكردي بمفرده، بحيث كان يتوقع الحصول على 16 في المئة من مجموع الأصوات.

&

لم يقتصر الأمر على انصراف الناخب التركي عن هذا الحزب بسبب تبنيه الخطاب القومي والأثني بل تبع ذلك حزب «الحركة القومية» باعتباره يمثل وفق ادعائه القوميين الأتراك وعزوفه عن الانخراط في أية تشكيلة يشارك بها من سماهم الحزب الكردي، فقد تدنت أصواته في شكل كبير وبعد أن كان ممثلاً في البرلمان بثمانين نائباً فقد انخفض عدد نوابه إلى ما يقرب النصف.

&

حزب «الشعب الجمهوري» هو الذي حافظ على موقعه في البرلمان باعتباره يمثل اليسار الليبرالي، ومع أن عدد مقاعده زاد مقعدين فقط إلى 136 مقعداً فقد فهم الناخب التركي أنه لا يمثل بديلاً مقبولاً للحزب الحاكم ولذلك باءت كل محاولاته رغم الوعود الانتخابية التي كان جوهرها العامل الاقتصادي بالفشل.

&

حزب العدالة والتنمية حصل على 316 نائباً وفق النتائج الأولية ولا ينتظر أن تختلف هذه الأرقام عند صدور النتائج النهائية المعتمدة من قبل مجلس الانتخابات الأعلى بعد أكثر من أسبوع وبعد تمحيص الطعون المقدمة إن وجدت في الفترة المسموح بها.

&

من خفايا هذه النسبة أن الناخب التركي اختار هذا الحزب ليقود البلاد خلال السنين الأربع المقبلة ولكنه لم يمنحه الأكثرية المطلوبة لتعديل الدستور أو سن دستور جديد بمفرده، وهذه العملية تقتضي الحصول على ثلثي مقاعد البرلمان، ولا حتى إمكانية إقرار ذلك بشرط عرضه على استفتاء شعبي وهو ما كان في حاجة الى حصول الحزب على 330 نائباً.

&

لنقل إن الرسالة واضحة وهو أن يحكم حزب «العدالة والتنمية» بمفرده ولكن عملية سن دستور جديد تقتضي الحصول على موافقة غالبية الشعب من المكونات الأخرى أيضاً لكي يتم العمل به. والمعروف أن جل النقاش حول هذا الموضوع كان ينصبّ على تغيير النظام في تركيا من برلماني إلى رئاسي، ويجمع المحللون على أن بيان الحزب الانتخابي رغم أنه قد تضمن فقرة واحدة عن مزايا الانتقال إلى النظام الرئاسي ولكن كل الاجتماعات الحزبية والجماهيرية خلت من الإشارة إلى ذلك من قبل رئيس الحزب رئيس الوزراء داود أوغلو وحتى من الآخرين بحيث اعتبرت حركة ذكية لعدم استقطاب المعارضين لذلك في بوتقة واحدة.

&

لنرجع بعد ذلك إلى التأثير الحتمي لهذه النتيجة في علاقات تركيا بالمنطقة على وجه الخصوص والدول الأخرى في شكل عام. صحيح أنه كانت هناك مآخذ على السياسة التركية الخارجية في أمور ومقاربات محددة، ولكننا يجب أن نفهم أن هذه المقاربات يجب أن لا تؤثر في مجمل العلاقات، وإذا كانت المنطقة العربية تعلم حالياً أن حزب «العدالة والتنمية» سيقود الحكم في تركيا لغاية 2019 بالتأكيد ولحين 2023 على الأغلب، فإن النظرة البراغماتية الصحيحة أو لنقل السياسة الواقعية تقتضي التعامل مع تركيا على هذا الأساس بتغليب الرؤى المشتركة والجوامع في شكل كلي وتجميد أطر الخلاف في أضيق حدود واعتبار ذلك من آثار المقاربات المختلفة التي يمكن تحجيم مردوداتها من طريق الحوار الصحي المعمق والودي.

&

أكاد أكون متأكداً أن تركيا ستخطو نحو المنطقة بجدية لو رأت أن الطرف المقابل ينوي وضع الخلاف على الرف والبدء بحوار منطقي من دون الولوج إلى مناقشات عقيمة حول من كان السبب في ذلك أو التركيز على الأخطاء المرتكبة سواء من هذا الجانب أو ذاك. فهل أطلب شيئاً يستحيل تحقيقه؟ لا أظن ذلك.
&