داود الشريان

قبل أيام زرت بيروت. وجدتها مثلما تركتها قبل أكثر من سنة، جميلة وممتعة. تضجُّ بالحياة والحيوية. لم أجد زبالة تشبه التي أُشاهدها في نشرات الأخبار والصحف، ولا تلك التي أراها أخيراً في السياسة اللبنانية. الفنادق تعجُّ بالسياح، والمطاعم بالزبائن. الشوارع مزدحمة، البنوك تقرض وتودع، والسفن تفرغ حمولتها، وتبحر. قلب البلد يشبه حديقة منزلية نظيفة، حوارات، وضجيج، وأطعمة من كل نوع. حتى الأزمة السورية باتت لها فوائد في لبنان. بعض اللبنانيين صار طموحه الحصول على جواز سفر سوري كي يتمكن من نيل حق اللجوء في أوروبا، ليبدأ حياة جديدة، على رغم أخطار الخطوة، لكنه حب المغامرة والبحث عن الجديد.

&

يقول الزميل سمير عطاالله في مقال له بعنوان «آخر دراسة للشخصية اللبنانية»، نُشِر في جريدة «الشرق الأوسط» عام 2006: «التقيت في باريس جان كلود ايميه مساعد الأمين العام للأمم المتحدة السنيور (خافيير بيريز) دي كويار، فسألته متى ستنتهي الحرب عندنا، فقال ضاحكاً: «لن تنتهي الحرب عندكم، أنتم تعثرون على حل لكل شيء. يغلق المطار فيفتح الميناء، ويغلق الميناء فيفتح البرّ. أنتم شعب يتقن فن البقاء».

&

هذا النّص يلخص الشخصية اللبنانية، وقدرتها على العيش، وإن شئت التعايش مع كل الظروف، ومواجهتها بشجاعة. لبنان يعيش في ظل عدم وجود رئيسٍ للدولة، لكنه لا يكترث. من هي الدولة العربية، فضلاً عن غير العربية، التي تستطيع الاستمرار بهذه الحيوية بلا رئيس؟ اللبنانيون يستطيعون العيش حتى بلا حكومة. زرتُ لبنان خلال الحرب الأهلية مرتين، كانت بيروت تعيش أجمل أيامها، الناس ترتاد المطاعم، تبيع وتشتري، وتقيم مناسباتها الاجتماعية، وفي الفنادق يخبرك موظف الاستقبال عن موعد الغارات، ويقول لك: «نام، لا تخاف، القصة ما بتحرز»، كأن الحرب لعبةٌ متفق عليها.

&

الدول ليست بالأنظمة والقوانين والشعارات بل بالشعوب. اللبنانيون شعب يحب الحياة، ورغم كل ما يقال عن الطائفية والمذهبية، تجدهم يتعايشون. في بيوتهم يلعنون بعضهم بعضاً ولكن حين تشرق الشمس، وينزل اللبناني الى زحمة الحياة، ينسى تلك الخواطر الكريهة. الأهم ان اللبنانيين إذا اغتربوا اقتربوا الى بعضهم بعضاً. اللبناني يحب اللبناني في الغربة، إذا كان المدير لبنانياً جاء بعاملين من بلده، في أحيان كثيرة يأتي بجماعته، لكنه غالباً يتمرد على الطائفية والمذهبية.

&

لا شك في ان لبنان حالة إيجابية، وحضارية في المنطقة العربية. وهو يمثل سماحة الثقافة العربية الاسلامية التي نُحِرت في المنطقة. لبنان هو البلد الوحيد الذي يعطي للعرب الغساسنة والمناذرة المكانة عينها التي كانت لهم في ماضي العرب، وهو أوفى الدول العربية مع هؤلاء العرب الأقحاح الذين تصدّوا لأطماع الفرس، لحماية العرب والعروبة.

&

الأكيد ان لبنان اكثر الدول العربية تماسكاً في ظل هجمة الشرذمة والتقسيم. وكل ما يقال عن صدامٍ لبناني أهلي آت، هو ترّهات سياسية ووهم. لبنان سيبقى يعلّم العرب التمدُّن، والقدرة على التعايش والانتصار للحياة.
&