&محمد طيفوري &

أنا أتابع أحداث فرنسا الأخيرة، دون أن تكون لي سابق نية للكتابة أو التعليق عنها، حدث أن دار نقاش لي مع باحثة سويسرية، مقيمة في فرنسا، تشتغل على قضايا "الفكر المتطرف"، كانت معرفتي الأولى بها في تونس السنة الماضية ضمن فعاليات مؤتمر هناك تحت شعار "الأديان والنظام العالمي الجديد: السلم والعنف"، الذي كانت ورقتي فيه موسومة بعنوان "الدين والسياسة والعنف: مثلث برمودا العصر الحديث" التي لم ترق خلاصاتها لبعض الباحثين الأوروبيين ممن حضروا المؤتمر؛ خصوصا الفرنسيين والألمان.

غير أن هذه الباحثة كانت نشازا ضمن الجميع، وقررت الانتصار لبعض المتداخلين العرب، ومنهم كاتب هذه الأسطر، ممن كان نقدهم حادا لأوروبا وسياساتها الخارجية وقضايا الإدماج والمهاجرين، بحكم معرفتها المقربة من الواقع العربي ومقابلاتها الميدانية مع بعض العناصر المتطرفة هنا وهناك.

نقاش مطول أجدني أعيد ترتيب بنات أفكاره في هذه الورقة كحاشية على متن أحداث ستغدو آثارها على شاكلة الدوائر التي تتولد عن إلقاء حجر في بركة مائية، فأحداث هذه الليلة الظلماء في التاريخ الفرنسي ستغير الكثير في السياسية الفرنسية داخليا وخارجيا، كما سننتظر تغييرا في النظرة الدولية تجاه الشرق الأوسط وقضاياه الملتهبة.

قلت لم أكن أنوي الكتابة، ففي مثل هذه اللحظات يفرض الباحث على نفسه مسافة ملائمة، تساعده على ضمان شروط تشخيص وتحليل موضوعيين، لمجريات الأحداث المتسارعة تباعا، من خلال استجماع كافة العناصر والمعطيات اللازمة لذلك.

لكن الآية في هذا السياق بالتحديد معكوسة؛ فالعوامل والأسباب الدافعة للفعل قائمة، تنتظر فقط اللحظة المناسبة للتنفيذ والإنجاز، وهو ما كان في مناسبتين على التراب الفرنسي؛ الأولى مع أحداث "شارل إيبدو" والثانية مع هجمات "13 نوفمبر".

ما حصل من تفجيرات في باريس لا يقره شرع ولا منطق ولا عقل ولا دين، لكن على «المتفرنسين» من بني جلدتنا أكثر من الفرنسيين أنفسهم أن يولوا وجوههم قبَل الشرق قليلا ليروا بحيرات الدم التي توشك أن تتحول إلى بحر ممتد في سورية والعراق واليمن وقبل ذلك فلسطين وليبيا أيضا، فالإجرام والقتل واحد ما دامت الضحية نفسا بشرية تزهق.

لكن واقع الحال يخبرنا عن نقيض ذلك، لا لشيء سوى كون الضحايا هنا من دولة قوية اعتادت أن تكون دائما في موقع الجلاد لا الضحية منذ قرون.

توالي أحداث العنف في فرنسا مرتبط بعوامل بعضها قديم، يعود أساسا إلى طبيعة نظام الدولة الوطنية في فرنسا القائمة على العلمانية الصلبة ذات العداء المبطن للدين والقيم الدينية، والكل يتذكر معركة "الحجاب" في فرنسا التي أثارت الكثير من السجال داخل الأوساط الفرنسية، إذ جعلت ثابتا من الأقانيم الثلاث للجمهورية الفرنسية (الحرية، الإخاء، المساواة) محط اختبار حقيقي.

والبعض الآخر؛ أي العوامل حديثا نسبيا، يمكن تشطيره شقين:

شق يتعلق بالأزمة الاجتماعية التي تخنق المجتمع الفرنسي، المتمثلة في وجود ما يشبه حالة مرضية في أوساط الطبقات المتوسطة والعليا لتوجيه سهام الكره في اتجاه ما.

هذا الاتجاه لن يكون سوى الأجانب، أساسا العرب والمسلمين، الذي صار شعارا للنخبة ولجزء كبير من المجتمع الفرنسي.

ويتفاقم الوضع حين يكون المستهدفون به فرنسيين من أصول أجنبية ممن ترعرعوا في فرنسا وأرضعوا قيم الجمهورية في التعليم والإعلام، وغيرها من مؤسسات الدولة، لكن لعنة الأصل تتبعهم الأمى الذي يضعهم في وضعية المستبعدين اجتماعية، ويعطيهم صفة مواطنة من الدرجة الثانية.


معركة "الحجاب" في فرنسا أثارت الكثير من السجال داخل الأوساط الفرنسية.

ينمي هذا الواقع شرخ داخل أوساط المجتمع الفرنسي، وهوة يسهل اختراقها وتذكية مشاعر الحقد والانتقام ضدها، وتعمل «داعش» وأخواتها على استغلالها، ولا أدل على ذلك سوى مراجعة لوائح الملتحقين بهذا التنظيم من الفرنسيين ذوي الأصولية العربية والإسلامية ممن لم يجدوا أنفسهم أفرادا كاملي المواطنة والانتماء داخل المجتمع الفرنسي.

أما الشق الثاني فيتصل بالسياسة الخارجية الفرنسية التي وضعت نفسها على رأس الكتيبة العالمية لمحاربة التطرف، وفتحت أكثر من جبهة للقتال دفاعا عن مصالحها الخارجية، وكأني بفرنسا تعيد سيناريو الولايات المتحدة بداية هذا العقد في كل من أفغانستان والعراق. ففرنسا هي القوة الغربية الوحيدة التي تحارب في منطقة الساحل الإفريقي (مالي، إفريقيا الوسطى، نيجريا...)، ضد جماعة بوكو حرام وربيباتها منذ مطلع عام 2013.

وتشارك كذلك في عمليات عسكرية إلى جانب القوات العراقية والأكراد ضد تمدد إرهاب «داعش» في الأراضي العراقية، وتقف بقوة وحزم مع القوات الأمريكية بأسطول جوي مهم ضد التنظيم في العراق وسورية.

ولا بأس هنا من استحضار اسم آخر، يتعلق هذه المرة بالكاتب والصحفي الفرنسي ألان غريش Alain Gresh الذي كتب مقالة بعيد الحادث مباشرة بعنوان "لنحكم العقل" من ضمن ما أورده في خلاصاتها: "ألم يحن الوقت أيضا للتفكير في البعد العسكري لهذه الحرب؟ إذا كان من اللازم القضاء على "داعش"، بعيدا عن القصف العسكري الذي يفتقر إلى الفعالية في الكثير من الأحيان، ألا ينبغي علينا أن نرجح كفة الفعل السياسي لإعادة بناء الشرق الأوسط الذي يغرق في دوامة من الفوضى، ولا سيما منذ التدخل الأمريكي في العراق سنة 2003؟ وأن نعمل على بلورة تنسيق بين جميع القوى الإقليمية، التي تسهم بطريقتها الخاصة في تفاقم الصراع في سورية؟ لعل اجتماع فيينا الذي شهد مشاركة جميع هذه القوى يشكل خطوة إلى الأمام في الاتجاه الصحيح.

لقد حان الوقت أيضا، وأكثر من أي وقت مضى، للضغط بقوة من أجل حل للصراع الإسرائيلي، الفلسطيني حل يمر عبر إنهاء الاحتلال الإسرائيلي. يجب أن تعطى الأولوية للسياسة والدبلوماسية على القنابل والقصف، كذلك ينبغي أن تكون استراتيجية فرنسا".

إنه واحد من عقلاء فرنسا، وما أكثرهم أمثاله، ممن يحاصرون كي لا يسمع صوتهم، خشية تأثيره في معزوفة الإجماع الوطني ووحدة الصف التي سوف تكون سندا لانقلابات جذرية في السياسة الفرنسية ومعها دول الاتحاد الأوروبي قاطبة تجاه عديد من القضايا في رفوف المؤسسات الرسمية الأوروبية.