سمير عطا الله

بعض الرجال يدخلون حياتك مثل الرفاق. تتعرف إلى أسمائهم في خبر هامشي صغير، ثم يكبر الخبر ويتصدرون الصفحة الأولى، ثم ينسحبون بكل كِبَر وهدوء، أبطالاً من الماضي، أنكرهم الماضي وبعثرهم الرفاق، وحفظ التاريخ وجوههم الكريمة. كان حسين آيت أحمد واحدًا من هؤلاء، وكان في إمكانك أن تراه في مقهى سويسري بسيط مع رفاق آخرين من الذين حملوا الاستقلال إلى الجزائر، وحملهم الصراع على السلطة إلى ديار الأرض، سويسرا كانت الأكثر أمانا.


كم محزن ألاّ يعود الأحرار إلى أرضهم إلا جنازات. رجال رفضوا العودة إلاّ وفقًا لرؤيتهم، ورؤيتهم لا تناسب الأوطان العربية، ففضلوا الشعور بالغربة في مقهى سويسري أو مطعم باريسي على العيش في غربة الحرية وقسوة الرفاق. كثيرون هؤلاء. أحمد بن بيلا كان واحدًا منهم. وأحمد طالب الإبراهيمي واحد منهم. وبوتفليقة فضَّل المنفى عشرين عامًا قبل أن يعود، محاولا زرع الوئام في بلد متحارب.


لكن المنفيين الجزائريين كانوا أكثر مأساوية مذ خرجوا من الحرب على الاستعمار ليتحاربوا ما بين أنفسهم في شوارع فرنسا وجادات مدريد وبنوك سويسرا. آيت أحمد كان بين الأكثر احترامًا للذات، والأكثر اعتبارًا. اضطر الرئيس بن بيلا في تشرده أن ينتسب إلى بعض الأنظمة المناقضة لثقافة الحرية والاستقلال. وبقي آخرون يخوضون الصراع في الجزائر من بعيد، لا يفقدون الأمل في استعادة الحقوق المصادرة. آيت أحمد أعلن البُعد والصمت والترفّع. لم يتوقف عن العمل الوطني والإنساني، لكن بعيدًا عن الصراعات. واعتذر عن جميع إغراءات أو نداءات العودة، إذ خشي أن تذيبه في سياسات أقل من حجم دوره الوطني ذات يوم.


ما أصعب المنفى على الصغار، فكيف على الكبار؟ كيف على الذين ساهموا في بناء الوطن المستقل، ورفع زواياه، وتثبيت أعمدته. آيت أحمد رفض الفصل بين الحرية والاستقلال. قاوم فكرة أن يكون الحكم الوطني غير ديمقراطي بحجة أن الشعب ليس مستعدًا بعد. فإذا لم يكن مستعدًا، لماذا قاوم الحكم الأجنبي بذلك التكرس؟ هل الحرية من الأجنبي غيرها من الوطنيين؟
كانوا مجموعة أسماء دخلت بيوتنا وذاكرتنا ونحن بعد فتيان. وكما يحدث في كل الثورات، تساقطت بعض الأسماء وبقي بعضها، واختار آيت أحمد لنفسه الحياة التي يريد. قامة تعلو مع العمر، وترتفع مع البعد، وتشمخ في التراب.
&