أحمد يوسف أحمد
&
دخلت مكتب الشركة المختصة لأسدد فاتورة هاتفي الجوال، وجلست أنتظر دوري بجوار رجل وقور الهيئة تشي ملابسه التقليدية بأنه يمني. سألته: حضرتك يمني؟ فأجابني بالإيجاب، فأردفت قائلاً دون تخطيط مسبق: هل من أخبار جديدة صباح اليوم؟ أجابني وقد استشعر اهتمامي بأنباء وطنه: مصادري هي نفسها مصادرك: الإذاعة والتليفزيون والصحافة، ثم أضاف من فوره: هم لن يستريحوا إلا عندما يروننا وقد تمزقنا شر ممزق. سألته وقد تصورت أنه يقصد ما يفعله «الحوثيون» باليمن: من هم ؟ قال الولايات المتحدة وإسرائيل وكل أعداء الأمة يريدون أن يختفي العرب من خريطة التأثير.
&
الرجل إذن يتحدث عن وحدة العرب وليس عن وحدة وطنه المهدد، أو بعبارة أخرى يضع وحدة وطنه في سياق أزمة أمته العربية ككل، وكان هذا غير متوقع من قبلي على الأقل في الظروف الراهنة التي يبدو فيها كل منا مشغولاً بشأنه الخاص. تواصل الحوار بيننا وفي نهايته سألته عما إذا كان من صنعاء، فأجابني بأنه من حضرموت وكانت إجابته مفاجأة لي. حضرموت؟ التي يُقال لنا إنها لا تريد أن ينفصل الشمال عن الجنوب، فحسب وإنما تريد أن يكون انفصالها حتى عن الجنوب.
&
ذكرني هذا الحضرمي المهموم بوحدة أمته العربية بمسألة ألحت عليّ كثيراً، وهي أن الانقسامات المروعة، التي ميزت السياسة العربية داخل الدول، وبينها لا تنبع من الشعوب العربية بقدر ما تترتب على انقسامات نخبها، وربما قيادات هذه النخب فحسب، وكذلك على تدخلات واختراقات خارجية للشأن العربي، وإذا أخذنا لبنان مثلاً، فهل يوجد بلد عربي يحاكيه في انقسام شعبه إلى طوائف عدة؟ ومع ذلك فإن كل من يعرف لبنان يدرك بحق أنه شعب واحد، وإن كانت له تركيبته المميزة لكنني أتحدى أن يكون أحد قادراً على التمييز بين أبنائه من خلال سلوكهم أو آرائهم، والكل يمارس حياته اليومية دون أدنى التفات للاعتبارات الطائفية؛ لأنه توجد لدى المواطن العادي رغبة في العيش المشترك، لكن قادة الطوائف هم أصحاب المصلحة في تكريس البنية الطائفية؛ لأنها مصدر امتيازاتهم ولو انتهى النظام الطائفي لزالت هذه الامتيازات. وفي العراق، كان معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة يستقبل أبناءه قبل الغزو الأميركي وبعده، دون أن يدري أهم من شيعة العراق أم سنته، ولم يظهر في سلوكهم أبداً ما يشير إلى انتمائهم الطائفي، وإنما كان المعنيون بالتركيز على الانتماءات الطائفية هم من ينتظرون المغانم من ورائها.
&
هذا عن المسؤولية عن الانقسامات داخل كل شعب عربي على حدة، أما المسؤولية عن الخلافات بين الشعوب العربية، فأشير على سبيل المثال إلى ما فعله الخلاف بين السادات وغيره من الحكام العرب حول التسوية مع إسرائيل في أواخر سبعينيات القرن الماضي من تأثيرات سلبية على العلاقة بين قطاعات واسعة من الشعب المصري ومثيلاتها في شعوب عربية أخرى بسبب الحملات الإعلامية المتدنية التي دافع بها كل فريق عن موقفه، ولن أنسى ما حييت تلك الواقعة التي تشير إلى فداحة الجرم الذي ارتكبه بعض النظم العربية بخصوص العلاقة بين شعوبها، فقد كنت أشارك في ندوة في بيروت في تسعينات القرن الماضي وفي مساء اليوم الأخير للندوة جمعتني بمجموعة من المشاركين فيها جلسة جميلة في المساء، وكان بيننا عراقي، وبعد مرور بعض الوقت مر بنا مشارك سوري عزيز علينا، فدعوناه للانضمام لنا ولاحظنا حرجه البالغ من دعوتنا وفي الوقت نفسه لاحظنا ارتباكاً شديداً من زميلنا العراقي وفهمنا، فقد حدث ذلك إبان ذروة الخلاف بين نظامي الأسد وصدام فزدنا الإلحاح على زميلنا السوري ووصل الأمر بأحدنا إلى أن صاح فيهما: عيب عليكما. أتخافان من الجلوس سوياً؟ ماذا يبقى لنا إذن؟ خجل الرجلان وانضم زميلنا السوري إلينا وكانت أمسية ممتدة من أروع ما يمكن تشي بهويتنا الواحدة، بل وصل الأمر إلى مزاح بين السوري والعراقي حول مصائب نظاميهما. انتهت الجلسة، فإذا بالرجلين ينتحيان جانباً ويخرج أحدهما مصحفاً ويتبادلان القسم بألا يذكر أحدهما شيئاً عن هذا اللقاء، فأي قهر ألم بنا؟ ليس لهذه الأمة من خلاص إلا الحكم الصالح.