ليبيا مسرح جديد في بيئة التطرف الإرهابي الأوسع

إياد أبو شقرا

مذبحة الشاطئ الليبي الفظيعة التي راح ضحيتها 20 من المواطنين المصريين الأقباط تشكل في بشاعتها مفصلا في الحرب على عنف غاشم يصرّ على توريط الإسلام ككل في مواجهة مع الحضارة العالمية. شخصيا لم أرَ أقبح منها. وهي اليوم تفتح جبهة حربية في ليبيا التي أزعم أنها مع اليمن تمثّل أضعف كيانات العالم العربي لُحمة، وأكثرها عرضة للتفتت والفوضى والفشل.


وهنا سأعود بالذاكرة ولو لبرهة إلى أيام الصبا، في لبنان ما قبل الحرب الأهلية و«السوبر» أهلية، عندما كان متاحا لأي شاب أو شابة غير خاضعين لتربية عائلية طائفية أو تلقينية متشدّدة فرصة للاطلاع على طيف من الآيديولوجيات المتنافسة في الساحة السياسية. كانت المدارس الثانوية والجامعات يومذاك المكان المفضل للنقاش والتجنيد الحزبي. وكانت المقاهي والمقاصف الطلابية تعجّ بالجدل الجميل البريء بين متحمّس ملتزم، وفضولي مشكّك، وعبثي تشكل عنده السياسة مدخلا لكسب ود صديق أو صديقة تضيف إلى فائدة التعلم.. متعة الصحبة.


كانت لمعظم الأحزاب «منظماتها» الطلابية.. أو بالأحرى «الطالبية»، كما كان يصرّ محبّو اللغة الفصحى، و«مفاتيحها» من الحَرَكيين والحَرَكيّات الذين كانت مهمتهم الأساسية في الكليات التي لا تتبع المنهج الحِصَصي الأميركي.. تجنيد محازبي المستقبل لا الدراسة الجامعية.


وهنا أذكر تماما كيف اطّلعت في تلك الحقبة على جوانب من عقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي كان أحد التنظيمات القومية والتحرّرية العلمانية الرائدة في المشرق العربي. كان للحزب وهجٌ عظيم، لا سيما بين الأقليات الطائفية والنخَب العلمانية المتمرّدة على التقاليد، لكنها في الوقت عينه ترفض الفكر الماركسي أو الليبرالية الغربية الجامحة، ولقد حقق الحزب منذ أسسه «الزعيم» المؤسّس أنطون سعادة اختراقات بين مكوّنات مجتمعات منطقة «سوريا الكبرى»، وتحديدا لبنان وسوريا وفلسطين والأردن.


يومذاك كانت تشغلني علاقة الحزب بالعروبة، وكانت الإجابة الجاهزة عند الحزبيين أن هناك ما يُسمى «العالم العربي» الذي يضم 4 أمم كل أمة منها «بيئة اجتماعية» واحدة هي: «الأمة السورية» التي تضم اليوم دول الهلال الخصيب الممتد من الكويت إلى فلسطين مرورا بالعراق وسوريا والأردن بالإضافة إلى قبرص، و«أمة الجزيرة العربية والخليج» بما فيها اليمن، و«أمة وادي النيل»، و«أمة المغرب العربي».
بالنسبة لي كانت عندي إشكالية إزاء حدود «الأمتين» الأخيرتين.. تتعلق بليبيا.


مع أيهما ليبيا؟
منطقة برقة الصحراء الواقعة إلى الجنوب منها - ومنها سرير قالانشيو - وواحاتها من الجغبوب إلى الكفرة تشكل امتدادا طبيعيا وديموغرافيا لغرب مصر والصحراء الغربية، ثم إن الفوارق شبه معدومة بين واحتي سيوة المصرية والجغبوب الليبية، ولقبائل مطروح - ومنها أولاد علي - امتدادات في برقة. وفي المقابل تشكّل طرابلس امتدادا طبيعيا لتونس، وتعدّ من الناحية الديموغرافية جزءا من البيئة المغاربية.


طبعا، في عصور الإمبراطوريات القديمة أسّست تلك الإمبراطوريات، وتحديدا اليونان والرومان، قواعد وحواضر لها في برقة وطرابلس. بل إن مضمون اسم «طرابلس الغرب» الليبية يختلف عن مضمون اسم «طرابلس الشام» اللبنانية؛ لأن الأول أطلق على إقليم يضم 3 حواضر هي أويا (مدينة طرابلس) ولبدة «لابتيس ماغنا» (قرب مدينة الخمس) وصبراتة، بينما أطلق الثاني على مدينة واحدة تضم 3 أجزاء.


وبمرور الزمن أدّى توسّع حدود الإمبراطوريات لتشمل الإقليمين الساحليين، ومعهما الإقليم الصحراوي فزّان. واستمر التفاعل بينهما وتعزّز بعد الفتح العربي الإسلامي، ثم أسهم توحيد الأقاليم الثلاثة خلال القرن العشرين تحت راية الدولة السنوسية في بناء هويّة وطنية واحدة، مع أنه ظل لليبيا عاصمتان لفترة غير قصيرة هما طرابلس وبنغازي. ولاحقا عزّز عاملا الثروة النفطية ونمو المدن على حساب الأرياف والبادية، ظاهرة الهجرة الداخلية والتمازج السكاني، فتناقص عدد المدن ذات الهوية القبلية الواحدة، مقابل تزايد المدن المختلطة. واليوم يتوزّع متحدّرون من أفخاذ أو فروع من قبائل متعدّدة في أماكن متباعدة من البلاد، ويغيب عن الحواضر الرئيسة كطرابلس وبنغازي، بل حتى مدن مثل درنة ومصراتة، التفرّد القبلي أو العشائري أو العرقي الذي ما زال إلى حد ما ملحوظا في أماكن أخرى مثل طبرق والبيضاء في الشرق، وبني وليد والزنتان وجبل نفوسة في الغرب.


نظام القذافي، مثل الديكتاتوريات «الشخصانية - العائلية» العربية الأخرى التي طالما ادعت «العروبة» و«العلمانية» و«الاشتراكية» زورا، مارس العبث بالواقع الفئوي (القبلي والطائفي والعرقي والجهوي) ما خلق مرارات وضغائن انكشفت بكل أبعادها بمجرد اهتزاز بنية الدولة القمعية وارتفاع نير الظلم عن شعب مكبوت مظلوم كاد يفقد الثقة بنفسه.. فكيف بشركائه في الوطن؟
اليوم، تتغلغل تنظيمات متطرّفة مشبوهة النيّات والخلفيات، بينها «داعش»، في معظم الكيانات التي عصفت بديكتاتوراتها رياح التغيير، وأسقطت أو كادت تسقط أجهزتها الأمنية. وما نراه اليوم في ليبيا لا يختلف كثيرا عمّا يحدث في اليمن وسوريا.


نحن أمام «ساحة مواجهة» أسهم في إيجادها فراغٌ فظيعٌ ناجمٌ عن انهيار أنظمة طغيان تحكّمت بالبلاد والعباد لأكثر من 4 عقود، ودمّرت معظم مقوّمات «المجتمع المدني»، وتعامل دولي قاصر ومقصّر يغلّب مصالحه الآنية على الرؤية الاستراتيجية في مناطق تجمع بينها عوامل كثيرة رغم تباعد المسافات الجغرافية.


إن ما يربط خلفيات المحن التي تلمّ بليبيا وسوريا واليمن والعراق أكثر ممّا يريد المجتمع الدولي الاعتراف به. لكن لئن كان الغرب يبدو اليوم قلقا من اقتراب الخطر من شواطئ جنوب أوروبا من الساحل الليبي المفتوح أمام فصائل التطرّف الذي يدّعي الإسلام هوية، فإن عليه النظر في استراتيجية أكثر أخلاقية وعقلانية ممّا يفعله اليوم.


مخاطر ليبيا قد تقرع ناقوس الخطر في أوروبا؛ لأن ذراع «التعاون» الإيراني المستتر لم تصل إليها بعد، وقد تجد صعوبة في ذلك. غير أن «الشراكة» الأميركية غير المُعلنة مع طهران في اليمن وسوريا والعراق لن تؤدي إلا إلى زيادة رقعة البيئة الحاضنة للإرهاب والتطرّف.


تكرارا، على العالم الإحجام عن صبّ الزيت على النار.