رضوان السيد
في البداية، شبّهتُ مؤتمر القمة في شرم الشيخ، بمؤتمر الإسكندرية عام 1964، الذي عمل أمرين اثنين؛ الاهتمام الجاد بالقضية الفلسطينية، ومأسسة القمة بحيث تنعقد بشكلٍ دوري. لكنني وبعد تأمُّل أرى أنّ قمة شرم الشيخ، هي أدنى في الشبه إلى قمة الخرطوم عام 1968، عندما صدرت اللاءات الثلاث، وانعقد العزم على استعادة ما ضاع في حرب العام 1967. الشبه يتجاوزُ مسألة الاستعادة، إلى أمرٍ آخر هو التوافُقُ من حول اليمن. إذ إنّ مصر كانت قد تدخلت في الانقلاب العسكري على حكم الإمامة عام 1962، وأرسلت عشرات الألوف من جنودها إلى اليمن لصَون الجمهورية، ولتحدي السعودية. ووقتَها وقفت المملكة ضد الانقلاب العسكري ودعمت الإمام والقبائل الموالية له.
إنما بعد العام 1967، رأت المملكة أنه لا يجوز بقاء الاستنزاف الحاصل على مصر، وينبغي أن تستردَّ مصر عساكرها لحماية أمنها من إسرائيل. ومن جهةٍ أُخرى لا يجوز استمرار معاناة الشعب اليمني. ولذلك فقد توافقت السعودية مع مصر ومع اليمنيين (الذين أظهروا تصميما على الجمهورية) على أن تساعد في بناء الجمهورية الجديدة، والتي رعتْها منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي. فالسعودية نظامٌ محافظٌ وعاقلٌ، ويرى الأمور بعواقبها وخواتيمها. وقد ذهبتُ للتدريس باليمن عام 1988 وبقيت حتى العام 1991. ووجدتُ أنا وزملائي من فلسطين وسوريا والأردن ومصر، أنّ بعضا منا يقبض مرتبه من السعودية والبعض الآخَر من الكويت (!)، ومعنى هذا أنّ الدولتين الخليجيتين وبعد نحو الثلاثين عاما على قيام الجمهورية، كانتا ما تزالان تتوليان الإنفاق على التعليم الأساسي والثانوي والجامعي؛ وهذا فضلا عن المساعدات المستمرة لإنشاء البنية التحتية أو الأساسية، والاستثمار الكبير في التنمية من جانب الشركات الخاصة. وعندما نشبت الأزمة اليمنية بتظاهرات الشباب عام 2011، ما كانت السعودية مسرورةً بالتطورات، وكانت تخشى على اليمن من النموذج السوري المتجه للعنف والفوضى والتدخل الإيراني. وهكذا تدخلت مع علي عبد الله صالح من أجل الاستقالة بالضمانات القانونية الفائقة. وبذلك فقد ظلّت حريصةً على الوحدة والاستقرار وانتظام عمل الدولة والمؤسسات، بغضّ النظر عن الأشخاص، مهما كانت علاقاتهم بالمملكة.
ولنعد إلى عاصفة الحزم، ومؤتمر القمة. لقد أدركت المملكة منذ أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني) عام 2014 أنّ المسار في اليمن بعد دخول الحوثيين إلى صنعاء مثل المسار في لبنان: ميليشيا مسلَّحة تضع على ألويتها (مثل حزب الله) شعارات الموت لأميركا، والموت لإسرائيل، تريد الاستيلاء على السلطة بالبلاد من طريق هدم المؤسسات وإرعاب الناس. وقد تحالفت على ذلك مع الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، كما تحالف حزب الله مع الجنرال عون. بيد أنّ مبعوث الأمم المتحدة، جمال بنعمر، وبعض الدول العربية كانت ترى غير ذلك وترى أيضا وأيضا إمكان تنفيذ «اتفاق السلم والشراكة» الذي أُبرم بين الحوثيين وسائر الأحزاب السياسية بعد 21 سبتمبر (أيلول) 2014! وما كان شيء من ذلك صحيحا، إلى أن بلغوا ذروة سيطرتهم على شمال اليمن كله، وبدأوا يندفعون نحو الجنوب. وعندها جاءوا إلى الرئيس وطلبوا منه أن يعيّن نائبا للرئيس ومجلسا رئاسيا برئاسته واستمهلهم الرجل ثلاث ساعات، تشاور خلالها مع حكماء اليمن، ثم قرر أن يستقيل، لكي لا يعطيهم فرصةً للتخلص منه، وإعلان نائب الرئيس رئيسا!
إنّ تمكن الرئيس هادي من مغادرة صنعاء، كان إيذانا ببدء العدّ العكسي للعملية العسكرية لإنقاذ اليمن. ويومها خرج الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى العلن باقتراحه إنشاء القوة العربية المشتركة أو الموحَّدة. وهكذا وعلى وقع التحضير للعملية العسكرية، كان يجري التحضير للقمة العربية ومقرراتها.
إنّ تشبيه قمة شرم الشيخ بقمة الخرطوم (مع أنّ التاريخ لا يعيد نفسه!) يستند إلى واقع أنه كان هناك انهيارٌ بمصر وسوريا والأردن بعد نكسة أو هزيمة العام 1967. وكان وقتها معروفا أن وراء هذه الانهيارات إسرائيل بجيوشها واختراقاتها. أما اليوم فإنّ الأمر أخطر، لأنّ الطرف الرئيسي المتدخل في العراق وسوريا ولبنان واليمن، لا يبعث جنرالاته ومستشاريه وحسْب؛ بل والميليشيات المسلَّحة الطائفية العربية وغير العربية، لهدم الدول وشرذمة المجتمعات. وبشار الأسد مثله في ذلك مثل علي عبد الله صالح، مستعد لقتل شعبه وتفكيك الجيش، وتسليم البلاد للقوى والميليشيات الغريبة، وليس مستعدا لتسليم السلطة لصاحبها، الشعب اليمني، والشعب السوري. واستطرادا (إذا ذكرنا المالكي): الشعب العراقي، وإذا ذكرنا حزب الله والجنرال عون: الشعب اللبناني! إنّ الواقع اليوم أشد هولا مما كان عليه الحال عام 1967. ففي ذلك الوقت كانت الجيوش مهزومة، وكانت الشعوب تحاول استدراك آثار الانهيار المريع والمفاجئ. أما في لبنان وسوريا والعراق واليمن وليبيا؛ فإنّ الجيوش ليست على ما يرام (لأنها صارت جيوشا عائلية)، أما الشعوب فقد اخترقتها الميليشيات الوطنية والغريبة، والتي تأتمر بأمر إيران، أو بأمر الطغاة، أو بأمر الإرهابيين القتلة!
جاء مؤتمر القمة إذن على وقع عملية عاصفة الحزم، وكما في مؤتمر سِرت عام 2010، قال الأمير سعود الفيصل للمجتمعين وللروس وللإيرانيين ولطغاة اليمن وسوريا إنّ مشهد الخواء الاستراتيجي لا يمكن أن يستمر، ولا بد من مواجهة الهول الأسطوري هذا بالقوة، التي لا تفهم إيران ولا تفهم ميليشياتها غيرها. ولو أننا استسلمنا لوقائع الإمبراطورية الإيرانية الجديدة في استيلائها على العواصم العربية، لكان احتلال بيروت عام 1982 من جانب إسرائيل لعبةً، مقارنةً بما يحصل منذ ثلاث سنوات: 14 مليون سوري مهجر ولاجئ ونصف مليون قتيل - وفي العراق مليونان ونصف المليون مهجر ولاجئ، ووقع الشعب العراقي مثل الشعب السوري بين الميليشيات الإرهابية من هذا الطرف أو ذاك - وفي اليمن يُقتل الناس وتخرب ديارهم على أيدي الجيش (الوطني) اليمني، وميليشيات الإمامة الحوثية - ولبنان من دون رئيس منذ عام تحت سيطرة حزب الله!
هذه الظواهر القاتلة والهائلة، والسياسات التي تتبعها إيران منذ سنوات، والتي أخبرنا الأسد قبل يومين بأنها ناجمةٌ عن الاتفاق «الاستراتيجي» بين سوريا وإيران وروسيا (!)، فما هي هذه الاستراتيجية، التي وبحسب بان كي مون تسبّبتْ في عَوَز وجوع أربعة من كل خمسة سوريين! فلا إنقاذ للعرب أوطانا ودولا إلاّ ببدء الانكسار الإيراني في اليمن، وتحول المسار في سوريا ولبنان والعراق! وصحيح أنها وحشيةٌ أسطورية، لكنّ التاريخ أعظم منها!
إنه مؤتمر قمة الخرطوم وزيادة. المؤتمر الذي تنطلق منه وبه الجيوش العربية لإنقاذ الشعوب والبلدان والانتماء والكرامة والاستقرار!
التعليقات