&أسامة الغزولي &
&في مقابلة على فضائية مصرية، سبقت المؤتمر الاقتصادي الدولي في شرم الشيخ بأيام عدة، أعرب الأمين العام السادس للأمم المتحدة بطرس بطرس غالي عن دهشته من أن مواطنيه ما زالوا يشيرون إلى الرئيس الأول للحكومة (ناظر النظار) في تاريخهم، نوبار باشا، باعتباره أرمينياً، وأضاف قائلاً: «نوبار مصري. لماذا تقولون نوبار الأرمني؟ هو مصري».
معروف أن جد الأمين العام السابق للمنظمة الدولية، وهو بطرس نيروز غالي باشا، صار الرئيس الأول للوزارة المصرية، بعد أن تحولت من نظارة (إدارة عثمانية) إلى وزارة، في دورة من الدورات المتتالية التي يعيد فيها التاريخ اختراع دول المنطقة (نكابد اليوم واحدة منها)، وفي زمن سمح بأن يرأس القبطي الحكومة، لكن ماسونياً يدعى إبراهيم الورداني اغتاله. ونذكّر هنا بماسونية الورداني لنخرج جريمة الاغتيال السياسي من منطقة الظلال الطائفية.
لم يتوقف الحفيد، في حواره المتلفز، عند حدود التذكير بماضٍ انطوى. مضى إلى ما هو أبعد، فأربك مضيفته المذيعة منى سلمان، بمطالبته المصريين بأن يتدبروا تجارب دول أخرى واجهت الإرهاب، وانتصرت عليه بمفاوضات مطولة. وفي الحالين، حال المطالبة بقراءة للتاريخ المصري تخالف القراءة المعتمدة منذ عقود، وحال الدعوة إلى التفاوض عبر وسيط أجنبي، تحدث غالي ككوزموبوليتي.
غالي الذي يناكد زوجته ليا المصرية اليهودية الأصل بالعربية، ويناجيها بالفرنسية، ويناقشها حول الأمور ذات الطابع العملي بالإنكليزية، وفقاً لما قاله هو لصحيفة «نيويورك تايمز» ولد وتربى وعاش حياته، إلى اليوم، كوزموبوليتياً. ولا يمكن فصل كوزموبوليتيته عن مناطحته الدائمة لرؤى وقناعات مستقرة في أذهان بني وطنه، وعلى النحو الذي أربك المذيعة التي حاورته في القاهرة، كما أربك المذيع (المصري أيضاً) أحمد منصور عندما حاوره على قناة «الجزيرة»، قبل سنوات، ولم يستطع منصور أن يتقبل من عربي أن يحاول تطبيع العلاقة بين الدولة العبرية العضو في الأمم المتحدة وبين الأمم المتحدة، حتى وإن كان الهدف من التطبيع هو إخضاع إسرائيل للشرعية الدولية.
يبدو غالي غريباً في المشهد المصري، مذ خرج، قبل عقود، من الدائرة الأكاديمية المحدودة إلى الفضاء الأوسع لوزارة الدولة للشؤون الخارجية. لكن أجواء التوتر التي فاقمها الصدام الدموي الراهن بين الأصوليتين الدينية والوطنية في مصر يضفي عليه مزيداً من الغرابة. ليس لأنه البقية الباقية من طبقة انقرضت، ولكن لأنه الأكثر جرأة (مقارنة بكثيرين يشبهونه، وإن لم تكن لديهم شجاعته) في التعبير عن الثقافة الكوزموبوليتية، ولأن كل تحول مرت به مصر منذ 1919 يبتعد بها عن الكوزموبوليتية، لا باتجاه ثقافة حضرية محلية، ولكن باتجاه المزيد من الترييف.
من يصدق أن هذا الكوزموبوليتي ولد في شارع «الفجَّالة» القاهري؟ يعج هذا الشارع اليوم بحضور ريفي كثيف وصاخب، بعدما ظل، زمناً طويلاً، هو وما وراءه من مناطق يتألف منها حي الظاهر بيبرس، فضاء للمتأوربين من سراة الأقباط، من أمثال أسرة غالي، وجاليات كبيرة من الشوام (كانت بينهم أسرة السياسي الفلسطيني ياسر عرفات والكاتب الفرنسي روبير سوليه) والأرمن واليهود. ولا تزال المدارس الفرنسية والكنائس الكاثوليكية من أبرز معالم الحي.
ذهبت إلى الفجالة في عام 2013 لمقابلة صحافية مع الحارس الشخصي لأسامة بن لادن والمؤسس الثالث لتنظيم الجهاد (الإرهابي التائب) نبيل نعيم. وإذا كان غالي هو الصورة التي اختفت من شارع الفجالة، فنبيل نعيم يمثل شريحة كبيرة من شرائح الزاحفين من الريف على هذا الشارع، وعلى غيره من شوارع وأحياء المدينة الكبيرة. أما من احتلوا غالبية مساكن الأوروبيين في المنطقة التي كان يشار إليها بالفرنسية، حتى الأربعينات، باسمquartier étranger (الحي الأجنبي) فهم ورثة حراس البنايات والطباخين والسائقين الذين خدموا الأجانب من سكان هذا الحي، وانتقلت إليهم حقوق الإقامة بعد رحيل مخدوميهم. ويعتاش هؤلاء الورثة على أنشطة رمادية، في غالبيتها، بينها التخديم على الشبان والفتيات المصريين وضيوفهم من الأوروبيين والأميركيين الشماليين في مقاهي الرصيف ومطاعمه التي تنافس، منذ التسعينات، في انتشارها السرطاني، المنافذ غير الرسمية للبيع بالمفرق في هذه المنطقة. وهؤلاء الضيوف الشباب هم شريحة وسطى من تدفق أجنبي، في قمته منتسبون إلى الشركات المتعددة الجنسية، وعلى القاع خدم المنازل المجلوبون. ووسط هذا التنوع الذي يثقل الرئة الثقافية والسياسية للمدينة، تلك الرئة الممثلة بالمنطقة الممتدة من شارع الفجالة، حيث غرقت المكتبات الكبرى في زحام المحال التجارية والباعة الجائلين إلى ما وراء الحي الأجنبي السابق، عند وزارة الأوقاف، يعلو فوق كل صوت آخر صوت النمط الذي يمثله نبيل نعيم، وتطفو صورته فوق موجاته.
ونعيم هو، من نواحٍ عدة، نقيض الأمين العام السابق للأمم المتحدة: في الملبس البسيط، والبنية العضلية، والمنطق البعيد من التعقيد، واللهجة الشعبية، وفوق كل شيء في محلية تناقض كوزموبوليتية غالي. والمقارنة بين غالي ونعيم تستدعي المقارنة بين غالي والرئيس السابق حسني مبارك الذي تأهل لكوزموبوليتية لم يعتنقها أبداً، بحكم أنه درس العلوم العسكرية بالإنكليزية، ثم درس الملاحة الجوية في معهد مدني مصري، بالإنكليزية أيضاً، ثم واصل الدراسة العليا في الأكاديمية العسكرية السوفياتية فرونزي (ربما بالروسية، وإن كنت وجدت معرفته بها قليلة عندما رافقته كمترجم عسكري، مرتين، في السبعينات) واقترن بسيدة بريطانية الأم.
قال لي أحد رؤساء هيئة الاستعلامات المصرية السابقين أنه عندما زار مسكن الرئيس السابق لم يعجبه فيه أن كل تحفة أو لوحة احتواها كانت هدية ولم تكن تعبيراً عن اختيار شخصي. ومعظم ما هو معروف عن مبارك، يؤكد أن هذا الجندي – السياسي ذا البنية العضلية، الشديد الميل للخطاب التقريري التبسيطي، يتبنى رؤية براغماتية ولا شخصية لمختلف شؤون الحياة، ومقاربة أساساتية essentialist تحبذ الاكتفاء بما هو مؤدٍّ للغرض، وفق تعريف الأساساتية عند غريغ ماكيون في كتابه الشهير «الأساساتية: السعي المنضبط لما هو أقل» الذي دخل قائمة «نيويورك تايمز» لأكثر الكتب مبيعاً. وهذه المقاربة التي يروج لها محررو «هارفارد بيزنيس ريفيو» و «فوربس»، من المحتم أن تفضي، إن انتقلت إلى الفضاء السياسي - الثقافي - الأخلاقي، إلى اكتفاء بالنفس عن العالم (يسميه أرسطو الأوتاركية)، وهذا أيضاً يُقوّي الميل إلى المحلية. وبالمثل، فنبيل نعيم، التقريري الصارم، الذي يملك من الذكريات والمعلومات أكثر مما يملك من الخيال، يعد مكتبه في الفجالة (كمكتبه الأقل عرياً القريب من ميدان التحرير) تعبيراً عن تمترس داخل دائرة المنفعة الحدية، وانكفاء على نفس قادرة على أن تستغني بقليلها عن العالم، في حين أن مسكن غالي في نيويورك، كما وصفه تقرير «نيويورك تايمز» في 1995 هو تجسيد لروح حرة ولذوق مركب يمزج الجمالي بالنفعي. وهنا يتبين، بجلاء، أن نعيم الأساساتي الأوتاركي، أقرب إلى مبارك، منه إلى غالي، ومن يشبهونه في مصر. وفي حوارات متلفزة، مع غالي ومع غيره، يتبين أن المذيعين سلمان ومنصور، على تباعد موقفيهما من التناطح الأصولي - الوطني، يقفان مع مبارك ونعيم في الدائرة الأساساتية الأوتاركية ذاتها، ما يرشحهما (هما ونعيم ومبارك) لتجسيد العقلية المحلية parochial mentality كما وصفها ميلوراد بيلانشيتش في فصل بعنوان «التحولات الديموقراطية والمقاومة»، في كتاب «الثورة والنظام: صربيا بعد أكتوبر 2000»، بقوله أن العقلية المحلية «مقاومة بالغة الشدة لتحديات الحداثة».
تخلّقت فرصة جديدة للاستجابة للحداثة، بعد أن استكمل المصريون في 30 حزيران (يونيو) 2013 تخلصهم من مبارك، بتخلصهم من التيار الذي قرر أنه البديل الوحيد الممكن. لكن الافتقار إلى الخيال السياسي – المدخل إلى بؤس الأساساتية المحلية المناهضة للحداثة - لم يكن من اختراعات مبارك. فقبل رئاسة مبارك، بعشرات السنين، غطى الحزب الوطني إفلاسه، بعد رحيل زعيميه مصطفى كامل باشا ومحمد فريد بك، بشعار «لا مفاوضة إلا بعد الجلاء»، معتبراً التفاوض مع المحتل البريطاني قبل جلائه عن مصر والسودان جريمة يعاقب مرتكبها بالموت. وتحت هذا الشعار تفاقم التبسيط الأوتاركي، وطنياً ودينياً في آن واحد، ليصبح، عبر عهود متتالية، أقوى عناصر «مقاومة الحداثة». لكن المشهد اليوم أعقد من أن تحتويه صيغة واحدة. وما قاله غالي قد يكون معناه – إذا جاز لنا أن ننقل بعض ما قاله بروك زيبورين في كتابه عن الفكر البوذي «ما بعد الواحدية والاختلاف» – أن مصر اليوم ليست في حاجة إلى «وصفة طبية لتركيب نظارات عقلية» جديدة، ولا إلى «جراحة بالليزر لتحقيق ضبط دائم لعضو الإبصار الذهني»، بل قد يكون المطلوب هو تخليق «نهم لاكتساب أكبر عدد ممكن من النظارات الأنيقة الثنائية البؤرة، أو الثلاثية البؤرة، أو الرباعية البؤرة».
&
&
&
&
التعليقات