عزة السبيعي

بعض كلمات الرجال معارك تنتصر للضعفاء، وهكذا كانت كلمات سعود الفيصل، كما كانت كلمات تشرشل رئيس الوزراء البريطاني تفعل في البريطانيين

&


في العالم المتحضر يقاس بشكل دوري مدى الرضا النفسي للمجتمعات عن أنفسهم وعن حكوماتهم، وتؤخذ مثل هذه التقارير بالاعتبار لمعالجة القصور قبل ظهور تبعات انخفاض معدل الرضا، لكن في داخل مجتمعاتنا العربية لا يتم ذلك ربما لأنه لا يوجد مقياس يستطيع وصف معنويات الأمة التي منذ عشرات السنين وهي تفقد إحساسها بالكرامة حتى استحت من إعلان العروبة كأنه مرض أو رائحة كريهة يخشى الفرد أن يشمه الآخرون!
قبل فترة ظهر في التلفزيون البريطاني شاب مسلم آسيوي يتحدث عن الإسلام، فقام المذيع بذكر أسامة بن لادن، فصرخ الشاب: أنا لست عربيا، يجب أن تفرقوا بين هؤلاء العرب والإسلام.


تبع ذلك الحوار عشرات التقارير التي تفخر فيها إيران بكل بجاحة بسيطرتها على أربع عواصم عربية، إيران التي لم تستطع السيطرة على كيانها الغارق في الفقر والأمراض الوبائية وانتشار بيع النساء باسم زواج المتعة، وبجيش أهلكه صدام حسين واستنزفه الشعب العراقي، تقف أمام العرب لتقول: مرحبا بكم في إمبراطورية فارس؛ ليرتجف كل فرسان العروبة في قبورهم حزنا على عزّ أضعناه.


سمو الأمير سعود الفيصل وزير خارجيتنا نوه لهذا المرض والوضع المتدهور وهو يتحدث في مجلس الشورى عن الفترة التي عانى فيها من المرض، وكيف أشبهت حاله حال أمة في تدهورها وضعفها، لكنه لم يشر ولو من بعيد إلى ما فعلته تلك اللحظة التاريخية التي حفظتنا مقاطعته للخطاب من إهانة كانت ستطول الأمة العربية وستعاني منها طويلا؛ وهو أن يخطب في قادتها رجل بحجم دناءة بوتين أرسل أسلحته ورجاله لقتل نسائنا وأطفالنا في سورية، ثم أراد أن يلقي خطابا أمام عرب اختارتهم شعوبهم ليحكموهم.


لكن الفيصل وبسرعة انتباهة القائد اختطف اللحظة وحرم أعداء الأمة من فرح بخطاب بوتين وهزمهم.


علقت عشرات وكالات الأنباء والشبكات الإعلامية على رد الأمير متعجبة من لغة الخطاب العميقة والبالغة الذكاء والمحترمة جدا التي اعتمدت على إثباتات يهولك إيرادها لولا أنك تذكر أن سعود الفيصل رجل يقود سياستنا الخارجية لأربعين عاما بتجربة حافلة وثقافة قيادية تستحق التوقف عندها.


في الواقع، إن مقاطعة سعود الفيصل لعرض الخطاب ورده العظيم الذي جعل معنويات كل عربي في كل شبر من وطننا العربي تعانق السماء لم تكن لتكون لو أن بوتين تحدث فأحرق قلوبنا كما أحرق أطفال سورية.


لقد كانت تلك اللحظات وعبقرية سعود الفيصل ترد بثقة وبعزة وكرامة وتدين وترفض، لقد كانت لحظة تكلم سعود الفيصل من أعظم لحظات العروبة وأشرفها.


إن بعض كلمات الرجال معارك تنتصر للضعفاء، وهكذا كانت كلمات سعود الفيصل، كما كانت كلمات تشرشل رئيس الوزراء البريطاني تفعل في البريطانيين، بل حتى في الألمان؛ يذكر التاريخ متحدثا عن تشرشل أنه لم تكن لتنتصر بريطانيا لولا تشرشل، لقد بث في شعبه الاعتزاز بنفسه وأخبره بأنه ليس أمامهم سوى النصر وأنهم قادرون عليه، والغريب أن ألمانيا صدقت كلمات تشرشل وتوقفت في الوقت الذي احتلت فيه فرنسا عن التمدد ومهاجمة بريطانيا، ولم تعلم أن بريطانيا وقتها لم تكن تملك ما تواجه به الجيش الألماني لو أنه فقط عبر إلى جزيرتهم، لكن صوت تشرشل قلب الموازنة وخلط أوراق الألمان؛ فصدقوا أن الجيش البريطاني قادر على إهلاكهم لو فكروا بالعبور، رغم أنه فقد معظم آلياته ورجاله في فرنسا.


سعود الفيصل لا يقول الكثير مثل تشرشل، وجيشنا يملك الكثير من الرجال والعتاد، لكن جمل الفيصل غيّرت مشاعر الناس التي أهلكتها سنوات عجاف رأينا فيها مشاهد حرق إخوتنا في سورية كحدث يومي لا يهم هذا العالم الصامت؛ لذا نحن كأمة ننتظر الكثير من قيادتنا التي وقفت بصلابة أمام الخطر الإيراني وعرته أمام العالم وأمام كل مخدوع بقدرتهم، ومنحت العرب فرصة الاتحاد وإثبات أن تلك القوة قادرة على فعل شيء.
&