عبد الوهاب بدرخان
اذا كانت الحال التي يظهر بها السيد حسن نصر الله تعكس حال ايران، فهذا يعني أن «الامبراطورية» ليست على ما يرام، وأن تأزّمها يراوح بها بين فقد الرزانة وفقد الأعصاب. ليس الأمين العام لـ «حزب الله» من يقول الشيء وعكسه هذه الأيام، بعدما قلبت «عاصفة الحزم» مزاجه العام، بل ان المرشد علي خامنئي نفسه يعلن رفض تفتيش المنشآت العسكرية ثم يسمح بإطلاق إشارات الى الولايات المتحدة بإمكان الموافقة عليه في إطار تنفيذ الاتفاق النووي، تماماً كما فعلت طهران حين حاولت كسر شرط تفتيش سفينة «المساعدات» الى اليمن ثم قبلته بعدما غيّرت حمولة السفينة. لا شك في أن لمرحلة ولادة الاتفاق النووي آلامها، لكن يبدو أنها ليست الآلام التي توقّعتها ايران.
مضت فترة من دون أن تتلقى طهران أخباراً طيبة من العراق وسورية واليمن، على رغم يقينها بأن «مشروعها» ماضٍ في طريقه. وإذا كانت «انتصارات» النظام السوري و «حزب الله» في جبال القلمون أشعرت علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد، بـ «الفخر» لأنها «تقوّي محور المقاومة»، كما قال، فإن نصر الله لم يشر يوماً الى حاجة هذا المحور الى تقوية بل أكد دوماً أنه ليس قوياً فحسب بل إن لديه فائض قوة. لكن الرجلين، حين جلسا لتقويم الأوضاع، وجدا أن حليفهما السوري في وضع يرثى له، وحليفهما العراقي يكاد ينسى واجبه الجهادي ولا يبدي كفاءة في ازاحة سذاجات «احترام الدستور»، وحليفهما اليمني يواصل بلاءه الحسن في الغباء واستدراج كل العداوات الداخلية له ولـ «محور المقاومة» معه.
لو أن لنصر الله صديقاً لوجب عليه نصحه بأن يكون ظهوره الاعلامي الأخير هو الأخير فعلاً. فكيف لرجل يقاتل في القلمون تنظيمين مصنّفَين ارهابييَن عالمياً أن يكون مُستَثاراً ومستَفزّاً وموتوراً الى هذا الحد في «انتصاره» عليهما، وكيف كان ليبدو لو كان «مهزوماً»، وما الذي دهاه لينخرط هو شخصياً في تهديد قطاع من طائفته وتصنيفه بأنه «شيعة السفارة» (الاميركية) اذ يرفضون مشروعه الايراني ولا يعاملون بالسمع والطاعة، بل ما يكسب من إظهار جمهوره الخاص وكأنه قطيع يخرج الى الميادين عند أول اشارة؟
واقع الأمر أن نصر الله، الذي كان يحتفل بذكرى تحرير جنوب لبنان، مدرك أن عربدات حزبه في لبنان ثم في سورية وغيرها ابتعدت به عن المقاومة الموقّرة، ورمته في دهاليز «المشروع الايراني». استغلّ الذكرى للقول إن «البعض» في هذا البلد، ويعني الشيعة في لبنان، هو مَن اختار المقاومة ولولا انتصارها لما كان هناك بلد، لكنه استغلّها أيضاً لرمي الآخرين بالتخوين وبتفضيل اسرائيل على المقاومة. فإمّا أن لديه وقائع وأدلة وأتاح له ضغط الأحداث فرصاً كثيرة لكشفها، وإمّا أنه مسكون بنظرية المؤامرة الى حدّ امتهان التلفيق والتضليل. أما الوقائع ذات الصدقية فأثبتت أن العديد من المحيطين به ضَبطوا بالتخابر مع اسرائيل، وأن حزبه تولّى التغطية على احد «العملاء» بسبب قربه من حليفه ميشال عون فكافأته المحكمة بحكم مخفّف لم يحظَ به متهمون آخرون. ثم أن أحداً ممن يعتبرهم خصوماً أو «خونة» لم يتهم بالتجسس لمصلحة العدو. وبمعزل عن اسرائيل، وفي سياق الوقائع أيضاً، ماذا يسمّى اغتيال رفيق الحريري ورفاقه وصولاً الى وسام الحسن ومحمد شطح، أهو عمل وطني، فعل مقاومة، واجب جهادي؟... إنه ببساطة انعدام ضمير. وماذا يسمّى قنص المتظاهرين السوريين في مطالع ثورتهم، وقتلهم واستباحة أرضهم، والقتال من أجل نظام مجرم، أهو دفاع عن «المقاومة»، او واجب قومي أو جهادي؟... إنه ببساطة تطوّع في الإجرام وسقوط أخلاقي تجدر محاكمة صاحبه وليس منحه الفرصة ليُحاضر في الوطنية والعزّة والكرامة.
أثبت نصر الله أنه صار أسير تنظيرة ايرانية مفادها أن «التكفيريين» اليوم هم اسرائيل الأمس، وأنه هو القائد المختار لهزمهم كما هزم اسرائيل. فمنذ عامين ونيّف وجد في «التكفيريين» ملاذاً مريحاً، يهرب اليه كلما تناهت اليه مساءلات عن قتاله في سورية. كان لا يزال لديه وازعٌ داخلي يدعوه الى التبرير، بل سمع داخل جمهوره من يطرح تساؤلات فراح يشرح ذرائعه و «اضطراريته»، مشيراً تارة الى حماية المقامات وطوراً الى حماية سكان مهدّدين، وهو يعلم أنه غير مقنع. ثم تخلّى شيئاً فشيئاً عن حصافته، فالأزمة السورية طالت ولم يحصل «النصر» الذي وعد به بل اعتبره محسوماً، وتفجّرت الأزمتان العراقية واليمنية، ولم يعد معنياً بالتبريرات. أصبح يقول أنه لا يطلب تفويضاً من اللبنانيين أو أي أحد آخر، الى أن قال أخيراً أن حزبه يقاتل حيث يشاء. لماذا؟ لأن هناك «تكفيريين» يبحث عنهم ويبحثون عنه، علماً أنه لم يقاتل «داعش» في أي موقع. حتى في القلمون يقاتل «جبهة النصرة» التي تقاتل النظام السوري ولا يقاتل «داعش». وفي القلمون حرص على «تحرير» المناطق السورية، ودفع «النصرة» الى مناطق لبنانية. أراد ان يضغط على الجيش اللبناني لتوريطه.
من الواضح أن الحدث اليمني أحدث فارقاً مؤلماً بين نصر الله ما قبل ونصر الله ما بعد. لم يهزّه «العدوان»، كما يسمّيه، ولا الضحايا والدمار، بل أغضبه أن الأولاد الذين هو بمثابة مرشدهم ضلّوا الهدف في اللحظة الأخيرة، وخسروا الرهان بعدما صار في أيديهم. كان يتطلّع الى «دولة الحوثيين» باعتبارها النموذج أو الارهاص لما يريد تطبيقه في لبنان، وقد أنجز خطوات متقدّمة على طريقه مزيلاً عوائق كثيرة. فالحكومة تركيبة هشّة كما كانت الحكومة التي أشرف الحوثيون على تأليفها في اليمن، ومجلسا النواب متشابهان بعجزهما، والجيشان مخترقان بمعرفته وبمساهمة حلفائه، والأهم أن رئيساً للجمهورية لا منتخباً ولا انتقالياً ليضطر الى حبسه أو مطاردته في مدينة أخرى، وهذه ميزة لم يحظَ بها الحوثيون. كل شيء جاهز، حتى أن لديه تحالفاً مع العماد عون يوازي تحالف الحوثي مع علي عبدالله صالح، واذا اتهم بالانقلاب فإن لديه رئيساً حاضراً هو مرشحه «الوحيد». واذا لامه أحد سيرد بأنه يردّد علناً منذ شهور أنه سيتصرّف اذا لم تتحمل الدولة مسؤولياتها، وهو يعلم أنه بسلاحه غير الشرعي كان ألغى الدولة منذ زمن، ولو نجح الحوثيون لكانوا أعطوه دفعة لإنجاز مشروعه. فلا هو ولا الحوثي معنيان بالسلطة والسيطرة لا بترهات بالاستقرار أو بالتعايش.
عندما طرح نصر الله حزبه كـ «ضمانة» للمسيحيين والسنّة في لبنان كان يبلغهم عملياً أن «داعش» في الداخل. فهو عليم بما ينويه هذا التنظيم مسبقاً. ألم يقل سابقاً (16/02/2015) أن «هدف داعش هو مكة المكرّمة وليس بيت المقدس»؟ ألم يقل في خطابه الأخير أن الموصل والرمادي لن تعودا اذا استمر الاعتماد على الولايات المتحدة؟ لا يمكن نصر الله أن يكون أكثر وضوحاً ليفهم من يهمه الأمر أن التحرر من «داعش» يكون بقيادة ايران أو لا يكون. وإذ يرى «التسهيلات» لـ «داعش» في أماكن فإنه يغض النظر عنها في أماكن اخرى، لئلا يزلّ لسانه بأي علاقة لإيران بهذا التنظيم. انصتوا الى نصر الله فهو يعرف كل ما يخطط له «داعش» كما لو أنه ينسّق مع ايران. وطالما أنه عرض ضمانته فإن أقل ما يتوقّعه، عدا الشكر والثناء، أن يُبايَع مرشداً/ ولياً فقيهاً/ ملكاً/ رئيساً!... فبعد مرور عام على شغور رئاسة الجمهورية في لبنان صار متاحاً للامين العام لـ «حزب الله» القول «أنا الدولة والدولة أنا». لكن مشكلته أن مغامرته البشعة في سورية جعلته صنواً لـ «داعش» وللنظام، وكلاهما دولتهما زائلة.
التعليقات