طلعت رميح&
تمر الطوابير، من بشر يزحفون.. خائفين.. مروعين.. منهكين.. مشوشين، من الرمادي إلى بغداد.. فيطلب منهم الحاكم الطائفي وميليشيات القتل، أن يكتبوا أوراقا ليحددوا من يتحمل مسؤوليتهم الأمنية، قبل أن يدخلوا عاصمة بلادهم.. وقد كانوا يذهبون ويعودون منها وإليها في كل يوم.
تمر الطوابير من العجزة والأطفال والنساء والرجال وكأنهم ماضون في زمن النكبة الفلسطينية.. وكأنهم يتحركون من حدود دولة إلى حدود أخرى. تمر طوابير المأساة، فيما العالم صامت، فلا يرى إلا ما تريه له أمريكا وإيران: داعش وحدها في المشهد العالمي تسد الأعين، فلا ترى الإنسانية المظالم والمآسي. داعش وحدها ما يفكرون فيه، فيما الميليشيات الإيرانية تقتل وتذبح ليل نهار.
وتمر سفن الموت المؤجل، المبحرة على غير هدى،لا يدفعها إلا الخوف– تنزلق على المياه وهي مشفقة على من تحمل-إذ تعلق بها هاربون من جحيم القتل والإبادة والحرق أحياء في وطنهم الذي يتحول اسمه بين ميامار وبورما دون أن تتغير مأساة من بداخله. تتحرك السفن والقوارب بأبناء الروهينجيا المسلمون فتوصد أبواب دخولهم للدول، إذ يدير العالم ظهره للسفن ومن عليها حتى ليلقوا مصرعهم، فلا يجدوا منقذا لهم إلا صيادي الأسماك الذين انخلعت قلوبهم بفطرة الإنسان، لهول ما يرون من نساء وأطفال وكبار السن يصارعون موتا في المياه وقد هربوا من موت على البر.
وبين المشهدين ثالث آثار الدنيا وأوقف العالم على قدم وساق. مدينة تدمر الأثرية التي سقطت في أيدي داعش، فيا ويلتاه على تراث الإنسانية الذي سيهدر.. اهتموا بالتراث وتركوا الحاضر.. تركوا الإنسان الحي الخائف المروع. اهتموا بالآثار – ولا ضير في ذلك بل هو واجب - لكنهم لم يهتموا بمن صنعوا الآثار ومن يعيشون إلى جوارها. لم يستطيعوا العدل والإنصاف في الاهتمام والحركة والفزع بين الإنسان الحي وآثاره، فهم حريصون على آثارنا القديمة لما قبل الإسلام، أكثر من حرصهم على حياتنا كمسلمين. لم يظهر بعض من مثل هذا الفزع والمساجد تدمر والأقصى يحرق ويقتحم ويهدد بالهدم.
تلك معالم الإنسانية الآن أو تلك ملامح ضميرها. وهذا حالنا نحن. نحن في نظرهم أقل أهمية من أثر. إذ الأثر مهم، لا جدال ولا مراء في ذلك، فتراث الإنسان هو ما بقي من الإنسان، لكن بقاء الإنسان عندهم، أقل أهمية من آثار أسلافه !
وتلك المشاهد كاشفة على نفاق السياسة الدولية واستمرار خضوعها للغة القوة لا للغة الحفاظ على الحياة، وحرصها على احتلال الأرض لا الحفاظ على من يعيش عليها.
في الرمادي اختزل أمر الأنبار في داعش، وفي الأرض لا البشر. لم يلق بالا إلى مشاهد تعيد الإنسانية إلى طوابير أسرى الحرب العالمية الثانية تحت سياط النازيين والفاشيين ومحارقهم. تباحث الأمريكي والإيراني ومن يتبعهما أو يعمل لأجلهما على أرض العراق، حول قتل وإجلاء داعش ليستحوذوا على الأرض، دون ذكر أو اهتمام بطوابير واقفة على حواجز رفض الدخول والإذلال، على يد من حولوا مداخل بغداد إلى أسوار، يدخل منها الإيراني والميلشياوي محاطا بهالات العظمة ويرفض دخول العراقي إليها، وهي عاصمته.
وفي مأساة الروهينجيا، اختصر الأمر في البحث عن صحة أو عدم صحة قيام صيادي الأسماك بإنقاذ ونقل من واجهوا الموت، دون التفات لصانعي الموت والقتل والحرق ضد هؤلاء الفارين المروعين، لم يتحرك العالم الحر لا في مواجهة القتلة المجرمين ولو بمجرد توجيه الاتهام لهم "وهم أجرموا ما فاق ما فعله الخمير الحمر"، الذين قلبت أمريكا أوضاع العالم رأسا على عقب بسببه. وهناك في نيويورك ظل حضرة الأمين العام للأمم المتحدة، ممسكا بسيف الأسى والقلق ولم يزد عليه ما يوحي حتى بالغضب.
أما في حالة تدمر، فلولا أن فهم البعض أن الأسد ترك تدمر لكي يعود للحديث باللغة التي يعرفها الغرب، لغة الأثر باعتباره أهم من البشر.. ولولا أن قادة داعش لم يبدأوا من فورهم في هدم الآثار، لكانت قوات الأطلسي قد هرعت ومعها قوات روسيا والصين لحماية الأثر. فالأثر أهم من البشر إن كانوا مسلمين.
لكنا نحن أو بعضنا هو من أخطأ. نحن الذين دفعنا أنفسنا لكل هذا الهوان. وما لم نخرج من تلك الحالة.. سنظل في طوابير الإذلال نخرج من طابور في بلد إلى طابور في بلد آخر!
&
التعليقات