كمال بالهادي

ارتبط اسم مدينة سرت الليبية بأحداث مهمة في تاريخ ليبيا المعاصر، ففي هذه المدينة عاش الليبيون إحدى أهم معاركهم ضد الاحتلال الإيطالي في العام 1975، وهي معركة القرضابيّة، التي هزم فيها الاحتلال الإيطالي و توحدت فيها القبائل الليبية.

وفي مدينة سرت أيضاً تم إعلان الاتحاد الإفريقي في العام 1999، في مشروع كان يرغب مؤسسوه أن يكون على شاكلة الاتحاد الأوروبي...

غير أن اسم المدينة ارتبط، بفترة الصراع بين نظام القذافي والولايات المتحدة الأمريكية، حين تمّ إطلاق اسم مدينة «الرباط الأمامي» على مدينة سرت، باعتبارها في مقدّمة المدن التي شهدت تحدي الأسطول السادس الأمريكي، و قد سمي خليج سرت ب«خليج التحدي»، لكن مدينة الرّباط الأمامي التي شهدت مقتل القذافي، تسقط في يد«داعش» من دون مقاومة تذكر سواء من الجيش الليبي أو من قوات «فجر ليبيا» التي كانت تسيطر عليها، مما يطرح أكثر من سؤال حول مستقبل ليبيا بعد أن سقطت إحدى أكبر مدنه في يد هذا التنظيم، الذي يبدو أنه يزحف للقبض على مدن كبرى أخرى..

تحتل مدينة سرت أهمية استراتيجية فهي تقع في منتصف المسافة بين طرابلس وبنغازي وتضم الكثير من المنشآت الحكومية، و تضم كذلك منشأة النهر الصناعي العظيم، فضلاً عن منشآت نفطية، وقاعدة عسكرية استراتيجية هي قاعدة القرضابية.

و سقوط المدينة، سيعني تمكّن تنظيم «داعش» من المفاصل الإدارية للدولة الليبية فضلاً عن سيطرته على أحد أهم المطارات المدنية، وكذلك حيازته آليات عسكرية وطائرات يمكن استخدامها في عمليات إرهابية.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن، يتعلق بالأسرار التي تكمن وراء تكرار سيناريو العراق في ليبيا؟ و لماذا تسقط المدن الكبرى دون أي مقاومة تذكر؟ وما هو السرّ وراء هذه القوة «الداعشية» التي تجعل الجيوش تهرب من مواجهتها؟ تذكر مصادر إعلامية أن بضع مئات من المقاتلين استطاعوا أن يطبقوا سيطرتهم على مدينة الموصل العراقية التي كان يحرسها الآلاف من الجنود، وتذكر التقارير الإعلامية أن سقوط الرمادي في أيدي«داعش» كان بعد مهاجمتها، من قبل عشرات من المقاتلين مقابل الآلاف من عناصر الجيش والشرطة ومقاتلي العشائر الذين كانوا يحمون المدينة، الأمر ذاته يتكرر في مدينة سرت الليبية، التي تعد مئة ألف ساكن، وغير بعيد عنها يسيطر التنظيم على مدينة درنة الساحلية، ولا أحد يقدر على وقف زحف هذا التنظيم.

وزير الدفاع الأمريكي قال عن حادثة الرمادي «ما حدث كان على ما يبدو أن القوات العراقية أظهرت فقط عدم رغبة في القتال أو إرادة له».فهل ينطبق الأمر على الوضع في ليبيا؟ و إذا كان الأمر كذلك، فلماذا يقف العالم صامتاً أمام هذا التقدم الميداني لعناصر تنظيم إرهابي، يهدد الأمن العالمي؟ في الحالة الليبية هناك تآمر دولي واضح و صريح، فالحكومة الشرعية المعترف بها دولياً، تطلب رفع الحظر المفروض عليها من أجل تسليح الجيش الليبي، في حربه ضد الإرهاب، لكن القوى الكبرى التي تدعي أنها تحارب «داعش» في العراق، وهي نفسها التي تتحكم بقرارات مجلس الأمن، ترفض تزويد الجيش الوطني الليبي بالسلاح و تتركه شبه معزول أمام ميليشيات مسلحة، تمتلك قدرات خارقة على تجنيد الشباب و قادرة على تهريب الأسلحة.

وهذا الوضع لا يمكن تفسيره إلا بكون هذه الدول الكبرى، تتآمر على الدولة الليبية وتدعم هذا التطرف الذي لا يهدد ليبيا فقط بل يهدد دول الجوار أيضاً.

ماذا بعد سرت؟ الجواب واضح وبسيط، وهو أن المدن الليبية ستسقط الواحدة تلو الأخرى، وربما ستكون طرابلس أول عاصمة تسقط في أيدي تنظيم "داعش"، إن تواصل التعامل بنفس المنطق و بنفس الأسلوب و بنفس الآليات.

وحينها لن يكون بالإمكان وقف زحف التنظيم نحو الدول المجاورة.

ربما تحركت مصر في الاتجاه الصحيح، حين احتضنت مؤتمراً للقبائل الليبية، لبحث خطط مستقبلية لإحلال السلام في هذا البلد.

خطوة صحيحة لأن التركيبة السياسية والإدارية في ليبيا تعتمد أساساً على العنصر القبلي، لكن هل تكفي هذه الخطوة لمنع الخطر "الداعشي " القادم بخطوات متسارعة؟ طبعاً لا، لأنّ الأمر يتطلب تنسيقاً أكبر بين مصر و دول الجوار، ويتطلب عقد لقاء عاجل على أعلى مستوى بين مصر والجزائر وتونس والتشاد والسودان ومالي، لبحث هذه المخاطر الحقيقية التي تستهدف الجميع.

إن التعويل على دور أممي في هذه المسألة أو على دور أوروبي، لن يعطي نتيجة على أرض الواقع.

لأنّ هؤلاء المراقبين للوضع من بعيد ليسوا كمن يضع قدمه على الجمر.

هناك دول شقيقة و هناك دول جوار باتت مستهدفة، وهناك مصالح متشابكة، تفرض وقفة رجل واحد، وتتطلب وقف انهيار ليبيا، وهذا بات أمراً عاجلاً لا يقبل أي تأجيل.

سيعود برناردينو ليون لتقديم خطة جديدة في الأيام المقبلة و سيعرضها على الفرقاء الليبيين من أجل التباحث و التوافق على حل سياسي يخرج البلاد من أزمتها.

لكن إلى حين أن يقع الالتقاء على ورقة موحدة، سيكون التنظيم قد ابتلع ليبيا، لأن كل المؤشرات تؤكد أن الجميع غير واع بخطورة ما يحدث في بلدهم في هذه الأيام.

و أن المفاوضات قد تطول كثيراً، و التجاذبات ستعطل أي اتفاق ممكن.

ما بعد سرت لن يكون سوى مزيد من السواد الذي سيلف المناطق الليبية، ومزيد من الدماء و الخراب ومزيد من اللاجئين الذين سيتركون مناطقهم إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً طبعاً، و إن استطاعوا ينفذوا بأرواحهم من قبضة "داعش".

مخطط التنظيم واضح وهو محاولة السيطرة على مفاصل الدولة الخدماتية و النفطية، ونجاحه في ذلك سيعني مزيداً من القوة، ومزيداً من النفوذ في ليبيا.

وعليه فإن الخطوات العاجلة التي يجب اتخاذها و دعم الحكومة الشرعية من أجل تنفيذها هي تقليم أظافر هذا التنظيم، قبل أن تتصلّب.