صالح القلاب
رغم أن موسكو قد تقدمت باقتراحها الأخير، المرفوض سلفًا، لتشكيل تحالف جديد غير التحالف الدولي المعروف لـ«مواجهة الإرهاب» يضم نظام بشار الأسد إلى جانب تركيا وبعض الدول العربية، فإن الواضح أن الروس يسعون في خطٍّ موازٍ إلى حلٍّ لتقاسم السلطة بين المعارضة السورية (الائتلاف) وباقي ما تبقى من هذا النظام، وفقًا للاقتراح الذي تقدم به المبعوث الروسي إلى الشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف في ذلك الاجتماع الذي جمعه في أنقرة مع بعض قادة هذه المعارضة قبل أيامٍ قليلة.
إنه لا شك في أن الروس يعرفون أن اقتراحهم الآنف الذكر هذا عبارة عن مناورة مكشوفة، وأن أيًا من الدول المعنية لا يمكن أن تقبل به أو حتى تفكر في قبوله، ولذلك فإنهم بالتأكيد قد أسمعوا وزير الخارجية السوري وليد المعلم، خلال اجتماعهم الأخير به وبالوفد المرافق له في موسكو، كلامًا غير هذا الكلام الذي قالوه علنًا، فهم يعرفون أن ما كان يقال سابقًا حول حلِّ الأزمة السورية قد تجاوزه الزمن وتجاوزته الأحداث، وأن الواقع العسكري على الأرض يتطلب البحث عن حلول واقعية غير الحلول المقترحة السابقة.
ربما أن اقتراح تقاسم السلطة بين الرئيس السوري والمعارضة السورية «الائتلاف» الذي تقدم به ميخائيل بوغدانوف من الممكن أن يكون مقبولاً لو أن روسيا تقدمت به في البدايات عندما كان جيش بشار الأسد يسيطر على معظم أراضي سوريا، فالآن هناك واقع مختلف، حيث إن حتى الروس باتوا يوافقون الولايات المتحدة ومعها كل الدول الغربية الفاعلة على أن هذا النظام الذي غدا مستنزفًا ومتهاويًا لم تعد له سيطرة فعلية إلا على نحو 25 في المائة من الأراضي السورية.
وحقيقة، وكما هو واضح، فإن القيادة الروسية باتت تجاه هذه الأزمة في وضع لا تحسد عليه، فهي تعرف أنها إنْ هي لم تتخل عن موقفها السابق فإنها ستكون كمن يواصل الرهان على حصان خاسر. وهي تعرف أنها إن هي لم تلعب أوراقها جيدًا فإنها «ستخرج من المولد بلا حمص»، وأنها ستخسر على الجبهة «الأوكرانية»، وأنها قد تفقد علاقاتها الواعدة المستجدة مع المملكة العربية السعودية ومع بعض دول الشرق الأوسط الأخرى. ولهذا فإنها، أي القيادة الروسية، ستحاول بالنسبة لنظام بشار الأسد إنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكنها في النهاية ستنحاز بالتأكيد إلى جانب ما يضمن مصالحها الحالية والمستقبلية في هذه المنطقة، وهي مصالح كثيرة وواعدة.
لكن وفي كل الحالات فإن روسيا ستجد نفسها في نهاية الأمر أمام خيار صعب بالتأكيد، وهو خيار إمَّا الاحتفاظ بعلاقاتها الحالية مع إيران، وهي علاقات تستند إلى المصالح والمنافع أكثر من استنادها إلى القيم والمبادئ، وإما تفضيل العلاقات الجديدة الواعدة مع دول مجلس التعاون الخليجي وبخاصة المملكة العربية السعودية ومع دول هذه المنطقة بشكل عام، التي كلها - كلها ومن دون استثناء - متضررة من التدخل الإيراني السافر في شؤونها الداخلية، والدليل هو ما يجري في اليمن وفي العراق وفي سوريا وفي لبنان وأيضا في ليبيا وفي الشأن الفلسطيني الذي يعاني من صداع مؤلم نتيجة للخلافات المستحكمة بين حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية.
ولعل ما يرجح خيار انحياز روسيا الاتحادية إلى علاقاتها العربية الجديدة الواعدة على خيار استمرار تمسكها بإيران هو أنها تعرف أن طهران سترمي بثقلها كله، إذا أصبح تقسيم سوريا أمرًا لا بد منه، إلى جانب إقامة دويلة طائفية علوية تمتد في شريط أرضي يبدأ بالعاصمة دمشق وينتهي باللاذقية على الساحل السوري محاذيًا لمدينتي حمص وحماه من الجهة الشرقية ولسيطرة حزب الله على الأراضي اللبنانية من الجهة الغربية.
إن الروس يعرفون أن إيران باتت تعمل فعليًا وجديًا، وهي تسمع أصواتًا غربية تتحدث عن أنه «قد حان وقت البحث عن بديل لبشار الأسد»، لإقامة الدولة «العلوية» المشار إليها آنفا ولذلك فإنهم بالتأكيد سينحازون إلى مصالحهم الواعدة مع العديد من الدول العربية، وأنهم لن يكونوا مع هذا الخيار الذي بات واضحًا أن الإيرانيين ذاهبون إليه بعدما أصبحوا على قناعة بأن هذا النظام السوري زائل لا محالة، وأن احتفاظهم بسوريا كلها بات غير ممكن ومن سابع المستحيلات كما يقال!!
قبل أيام تحدث السفير الأميركي (السابق) في دمشق روبرت فورد في محاضرة له في مركز دراسات الشرق الأوسط في واشنطن عن الأوضاع في سوريا، وحقيقة أنه قد رسم صورة مرعبة ومأساوية لهذا البلد العربي عندما أشار إلى أنه ذاهب إلى التقسيم، وأن في انتظاره ستة سيناريوهات (تصورات) تجعل وحدته في حقيقة الأمر في مهب الريح، وأن تقسيمه بات تحصيل حاصل!!
قال فورد إن سوريا غدت ذاهبة إلى أن تتحول إلى ست دويلات بلا حدود ثابتة، هي الدويلة العلوية الممتدة من دمشق إلى اللاذقية مع انفتاح على مناطق سيطرة حزب الله في لبنان، ودويلة لجبهة النصرة في منطقة الشمال الغربي في إدلب وجسر الشغور، ودويلة في الشرق تابعة لـ«داعش»، ودويلة كردية في الشمال الشرقي في الحسكة والقامشلي، ودويلة في حلب وضواحيها، ودويلة للجيش السوري الحر في الجنوب كله بما فيه القنيطرة. أما العاصمة دمشق فإن وضعها، كما قال السفير الأميركي السابق في دمشق، سيكون كوضع بيروت خلال الحرب الأهلية اللبنانية عندما كانت في ذروتها.
إنَّ هذا هو مجرد تصور لسفير أميركي سابق في دمشق، لكنه كما يبدو تصور الإدارة كلها، وتصور دول الغرب الفاعلة بمعظمها. فالحديث عن تقسيم سوريا للأسف بات بضاعة رائجة، وبات يقال في كل مكان، لكن ورغم كل هذه التصورات السوداوية فإن ما يُبقي ولو على بصيص ضئيل من الأمل هو أن مثل هذا الكلام كان قد قيل عن بلاد الأرز في ذروة الحرب الأهلية عندما كان هناك من يتوقع أن يصبح لبنان ثلاث دويلات طائفية: دويلة مسيحية بقيادة مارونية، ودويلة سنية، ودويلة شيعية في الجنوب ومنطقة البقاع. لكن ثبت في النهاية أنه لا يصح إلا الصحيح، والصحيح أن هذا البلد العظيم بقي موحدًا وذلك رغم ما يعانيه الآن من تمزقات سياسية عنوانها أن حزب الله يشكل دولة داخل الدولة اللبنانية.
ثم ورغم التعلق بحبال الأمل التي هي في واقع الحال أوهى من خيوط العنكبوت، فإن هناك من يرى، وهذا على مستوى الدول الفاعلة ومن بينها بعض الدول العربية، أنَّ سوريا غدت ماضية إلى التقسيم فعلا، وإلى قيام الدويلة المذهبية التي تريدها إيران، وبالتالي يريدها نظام بشار الأسد، لكن ما يجب أخذه بعين الاعتبار هو أن تقسيم العراق «فعليًا» قد يسبق تقسيم سوريا، فالأمور في بلاد الرافدين في ظل ما هو جارٍ على الأرض غدت تنذر بعواقب وخيمة بالفعل، وبما بقي العراقيون الوحدويون يخشونه منذ عام 2003 وحتى الآن.
إن هذه تصورات مخيفة ومرعبة بالفعل، وهي تدمي قلب كل عربي يغار على هذه الأمة ويتمسك بوحدتها ووحدة أقطارها ودولها، لكن ما العمل ونحن نرى في العراق كل هذا الذي نراه، ونحن نرى أن نظام بشار الأسد بقي يتمسك بكرسي الحكم ويقدمه على وحدة سوريا ووحدة شعبها إلى أن أصبح التقسيم والانقسام مطروحًا في هذا البلد كما أنه أصبح مطروحًا في بلاد الرافدين؟!
التعليقات