عبد الوهاب بدرخان
عاد إيلان الكردي إلى عين العرب ليوارى مع شقيقه ووالدته، خسر أمله في أرض آمنة، فاته مستقبل كندي كان يجهله، وفقد حياته في تلك المغامرة التي قاده إليها والداه. لكنه لا يزال هناك، على شاطئ «بودروم» التركي، حيث شوهد «نائماً» بعدما تقاذفته الأمواج، وسيبقى هناك حيث طبعته الصورة في الأذهان، كما لو أنه ابن لا أحد وولد كل أحد. فالأطفال في عمره يتشابهون. شعره، رأسه، جسده، قميصه الأحمر، بنطاله الكحلي، وحذاؤه الأسود، تذكّر بأولادنا وأولاد الجيران، وبالألوان التي يختارها الأطفال للخربشة على رسوم أترابهم في دفاتر التلوين. كان يمكن تلك «الجثة» أن تكون لدمية سقطت من يد إيلان خلال التزاحم للصعود إلى قارب الهلاك، ولعله بكى دموعاً حارة للفراق عنها، بل لعلنا كلنا تمنينا أن تكون دمية فعلاً، لكنها كانت هو نفسه، ولا أحد يعلم ما إذا كان إيلان وجد وقتاً للصراخ والاستغاثة قبل أن تبتلعه المياه التي استقبلت قبله مئات الأطفال والأمهات في رحلات مماثلة.
قدر إيلان أن يصبح رمزاً لحقبة إنسانية بائسة، وأن يكشف ضعف القوى الكبرى وجبروت الطغاة الصغار. فالنازحون، اللاجئون، المهاجرون، سلعة تتهافت عليها «دولة المهرّبين»، التي تبدو اليوم كأنها قلبت المعايير والقيم: فهل تكمن المشكلة في أن هؤلاء البشر المنسيين في مدنهم وبلداتهم هبّوا فجأة راغبين في الهجرة أم في أن هناك مَن اضطهدهم وسفك دماءهم واقتلعهم من بيوتهم، وهل المشكلة في البلدان التي استقبلتهم مرغمة بحكم الجيرة ولم تعد قادرة على استيعاب المزيد أم في بلدان جهدت منذ البداية لاستبعاد امتحان «إنسانيتها» بالترحيب بهم، وبالتالي هل المشكلة في أن هؤلاء الهاربين يرغبون في الانتقال إلى أي برّ آمن أم في أن هناك مَن يتربّحون من تهريبهم؟ أصبحوا مشكلة أوروبية، أو تركية وأردنية ولبنانية... وليسوا مشكلة سورية أو عراقية أو ليبية أو أفغانية أو أفريقية.
تصرّفت بلدان «المصدر» كأنها معنية فقط بطردهم وتصديرهم، فالاعتبار الإنساني عندها مات منذ زمن، ولم يكن تكوين دولها وجيناتها، إذا وُجدت فيها دولٌ أصلاً. هم عبء سكاني يضايق السلطة، وسنحت لها فرصة للتخلّص منه. اعتاد العالم، من دون وجه حق، على التعايش مع بلدان طاردة لأبنائها، وما عاد يستغرب هروب الأفغان والأفارقة، مثلاً، إذ يرى حكامهم غارقين في الاستبداد والفساد، ولذا فالغرابة في أن يبقوا في مواطنهم يمارسون عيشاً لم يكن له يوماً طعم الحياة، ويعاملون ككمّ مهمل من الشباب والعجّز. كانت النظرة مختلفة إلى سوريا، لأن المظهر كان خدّاعاً، ولأن معادلة «الاستبداد- الاستقرار» كانت كذبة مصيرها الانكشاف الكارثي عند أول منعطف. وهي ذاتها المعادلة التي سادت عراق العهد السابق، وقد بدّدها منعطفا الاحتلال الأميركي ثم الهيمنة الإيرانية. قوافل الهاربين من بطش النظام ومجازره في سوريا تعرّضت لكل أنواع التنكيل والإهانات. طوابير الفارين من إرهاب «داعش» في الرمادي أوقفت عند مداخل بغداد، وعومل أفرادها كأجانب وافدين لا مكان لهم ولا ملاذ. تلك مجرّد عيّنة من التغيير الذي طرأ على العقول والنفوس.
كانت هجرة عرب المتوسّط بدأت قبل قرنين تحت وطأة الاضطهاد العثماني، وما لبثت أن تعاظمت بفعل المجاعات. ومنذ اصطُنعت إسرائيل وزرعت كبؤرة ممثلة للاستعمار القديم في قلب المشرق تعرّف العرب إلى ما بات يسمّى «الشتات». أُخرج الفلسطينيون أولاً من بيوتهم وقراهم، ثم من أرضهم إلى أرض اللجوء في بلدان الجوار، ومنها إلى العالم الذي لم يبدِ ترحيباً بهم، إلى أن أصبح يتقبّلهم، لا بدافع إنساني وإنما لأن الدول الكبرى شجّعت على استقبالهم كمساهمة منها في دعم إسرائيل التي استولت على أرضهم وأملاكهم وماضيهم، ورفضت أن تكون عودتهم جزءاً من مستقبلهم... يُخشى أن يكون هذا النموذج الإسرائيلي هو ما استوحاه النظام السوري وحليفه الإيراني في التعامل مع شعب سوريا.
لم ينقسم الاتحاد الأوروبي سابقاً كما هو اليوم بانشغاله في توزيع حصص المهاجرين على أعضائه مواجَهاً رفضاً شديداً من دوله الشرقية الشيوعية سابقاً، أو في محاولته شراء تعاون الدول الحدودية (اليونان والبلقان) التي أصبحت ممرات مفتوحة لـ«الغزو الإسلامي» و«الخلايا النائمة» كما وصفها مسؤولون مجريون وسلوفاكيون وهولنديون. ووسط هذا الانقسام ينذر الرئيس أوباما، كما فعل بالنسبة إلى إرهاب «داعش»، بأن مشاكل المهاجرين ستستمر لعقود مقبلة. لا يعني ذلك سوى أن الدول الكبرى تفتقد الإرادة لحل النزاعات التي تدفع بموجات المهاجرين إليها. وهذه بشرى سارة للطغاة وأنظمتهم.
&
التعليقات