عبدالله المطيري

الإنسان متعدد المرجعيات الفكرية والأخلاقية لديه فرصة أكبر للتسامح وقبول التنوع، بينما إنسان البعد الواحد لديه فرصة أكبر للتطرف والانحياز للخيارات العنيفة في الحياة

&


الأطروحة الأساسية في هذا المقال هي التالي: الإنسان متعدد المرجعيات الفكرية والأخلاقية لديه فرصة أكبر من أحادي المرجعية بأن يكون أكثر تسامحا وقبولا للتنوع في الحياة. الإنسان أحادي المرجعية أو ما سأعبر عنه هنا بإنسان البعد الواحد لديه في المقابل فرصة أكبر للتطرف والانحياز للخيارات الحادة والعنيفة في الحياة. هذه الأطروحة مبنية على ملاحظات مباشرة من الساحة المحلية السعودية. الملاحظات تشير إلى التالي: الأفراد الذين يعلنون انتماءهم لعدد من المرجعيات المختلفة في ذات الوقت رغم تعارضها أحيانا تمتاز سلوكياتهم بعدم التطرف. المقارنة ستكون أوضح في المقارنة بين الشخصيتين التاليتين: (س) ينتمي لأسرة محافظة وتربى على مجموعة من القيم والالتزامات. المنظومة الأولى هي المنظومة الدينية، لكنها تصاحبت مع منظومات أخرى لم تؤسس على أنها دينية وإن لم تكن تعارض الدين بالضرورة. بمعنى أنه تربى على قيم الكرم والضيافة ورعاية الجار واحترامه بدون تأسيس ديني. هذه التربية نلاحظها مع كثير من الأجيال السابقة التي تؤكد على قيم اجتماعية مهمة بدون أن تؤسسها أو تؤكد على تأسيسها دينيا. (س) بهذا لديه مرجعيات متنوعة: مرجعية دينية، مرجعية عادات وتقاليد.. الخ. في المقابل (ص) تربى في أسرة محافظة أيضا لكن محافظتها مختلفة. والده كان حريصا على تربيته تربية دينية كاملة، وكان حريصا جدا على تأسيس أي مرجعية أخرى على أساس ديني، بمعنى أنه كان مشغولا بفحص كل العادات والتقاليد وإخضاعها لتوجهه الديني. لذا الجار لديه له حقوق، ولكنها حقوق مرتبطة بحسبة دينية محددة وخاضعة لها. النتيجة المحتلمة هنا (وهذه حالات عاشرتها بشكل مباشر) هي اختلاف في سلوك (س) و(ص) رغم أن كليهما متدين. (س) رغم تدينه لا يزال يحفظ لجيرانه "العصاة"-حسب منظوره الديني- حقهم كجيران بغض النظر عن الحسبة الدينية. (س) ملتزم لأقاربه "العصاة" بحق القرابة. (س) يجد ما يردع سلوكه المدفوع بحسبته الدينية المتشددة، ويجعله قادرا على التعايش مع الآخرين لدرجة تكفل استمرار الود والتواصل مع الناس. في المقابل (ص) لديه حسبة أخرى. (ص) يتحرك حسب معيار واحد، وهو حسبته الدينية المتشددة، فجاره "العاصي" لا بد أن يعامل معاملة العصاة لا معاملة الجيران، وقريبه "العاصي" لا بد أن يعامل معاملة العصاة لا معاملة الأقارب. لذا (ص) حاد وعلاقاته متوترة مع من حوله.


أحد الأمثلة التي عاشرتها كانت عن شخصين التزما دينيا وهما في مقتبل الثلاثينات. الأول سلك تدينا سمحا لدرجة كبيرة باعتبار أن حساباته كانت متعددة. مثلا في المسجد كان يراعي كبر سن بعض الجيران، ولذا فلا يقوم بتوجيههم للالتزام بالتفاصيل الفقهية الدقيقة في طريقة الصلاة والتي ألزم نفسه بها. كان يحترم جيرانه لدرجة أنه يتحرج جدا من رفع التقارير للهيئة عن "المنكرات" التي يعرفها في بيوتهم. كان مؤدبا جدا لدرجة أنه يخجل من الهيمنة على المجالس التي يحضرها باسم الدعوة والنصح. في المقابل كان الشخص الثاني يتتبع بيوت الجيران في الفجر ويضرب الأجراس لفترة طويلة ليوقظهم للصلاة دون أي اعتبار للأذى الناتج عن سلوكه. كان لا يتورع في إظهار كبار السن في المسجد على أنهم جهلة ولا يعرفون الدين. كان لا يتورع كذلك في رفع التقارير للهيئة للإبلاغ عن جيرانه الذين لا يحضرون الجماعة في المسجد. حسبته دائما أن كل الاعتبارات الأخرى ليست لها قيمة أمام ما تمليه عليه تصوراته الدينية الخاصة.


الملاحظات السابقة ناتجة عن تجربة شخصية لا عن إحصاءات جماعية، لكن الأمل أن يرى القارئ فيها ما يتوافق مع تجاربه الشخصية. بقي هنا أن نقول شيئا بسيطا يمكن أن يكون مقدمة أو مدخلا لتفسير المشاهد السابقة. (س) لديه فرصة لرؤية الأمور بمنظار أوسع وأشمل. عقله وضميره أشبه بالحوار بين أطراف متعددة تعطي حساباته شمولية أوسع. في المقابل فإن عقل وضمير (ص) أشبه بالحديث المنفرد والصوت الواحد، لذا فهو لا يرى إلا بعدا واحدا من الأمور. الحوار بطبيعته شراكة، لذا فإن (س) لديه القدرة على التواصل مع الآخرين. الاندفاعات المتطرفة في تفكيره تجد من يهدئ منها ويروّضها ويختلف معها. المرجعيات المتعددة في تفكيره تجعله في حضرة مجموعة من الأصدقاء الذين يعرضون عليه الأمور من أطرافها المتعددة. (ص) في المقابل يسمع لصوت واحد لا ثاني له، ولذا فهو بالضرورة يرى من عين واحدة. بالتعبيرات الفلسفية (س) يفكر بطريقة جدلية تقوم على حقيقة الاختلاف والتنوع. في المقابل فإن (ص) يفكر بطريقة متوائمة قائمة على إلغاء الاختلاف والتنوع. (س) يواجه في حياته حالات من التوقف والتردد والتراجعات والقلق من آثار سلوكه، فيما يبدو (ص) مباشرا منطلقا في طريقه أحادي الاتجاه بكل قوة وحماس. توقفات وترددات ومراجعات (س) تجعله أقرب للسلم والعدالة والرحمة، فيما تدفع طاقة (ص) الهائلة به وبالآخرين باتجاه أطراف بعيدة تصل في أحيان متعددة إلى العنف وضرب أسس علاقاته مع الآخرين.
&