&صالح عبد الرحمن المانع
حاول بعض رجال الكونجرس منذ عام 2001، مقاضاة حكومة المملكة العربية السعودية، وبعض رجال الأعمال وبعض الشخصيات النافذة فيها، لما سُمِّي بدور المملكة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ومقتل قرابة ثلاثة آلاف شخص من المدنيين في برجي مركز التجارة العالمي في مدينة نيويورك. وذلك بسنّ قوانين جديدة تحاول إدانة الحكومة السعودية في تلك الأحداث المأساوية التي نفذتها «القاعدة» ضد هؤلاء المدنيين، وغيرهم من المدنيين والعسكريين في المملكة العربية السعودية نفسها، وفي بلدان أخرى.
وبدورهم حاول العديد من أُسر ضحايا أحداث سبتمبر في نيويورك مقاضاة الحكومة السعودية وبعض التجار السعوديين، إلا أنّ وجود قانون أميركي يمنع محاكمة دول أجنبية مستقلّة حال دون نجاح تلك المحاولات، وكلف ذلك حينها الحكومة السعودية وعدداً من الشخصيات الاقتصادية في المملكة مئات الملايين من الدولارات.
وفي كل مرة كانت محاولات بعض رجال الكونجرس إلغاء هذا القانون والعمل على إبطاله، تبوء بالفشل. إلا أنه وبكل هدوء، وفي سنة انتخابية، نجح بعض أعضاء مجلس النواب ومن ثمَّ مجلس الشيوخ، في إقرار هذا المشروع في سنة انتخابية يكاد السياسيون الأميركيون فيها يقعون على وجوههم من أجل استدرار عطف الناخبين والظهور أمامهم بالمظهر الوطني الحريص على مصلحة عائلات الضحايا.
وقد أحسن الرئيس الأميركي أوباما بالتصويت ضد القانون قبل أسبوع، إلا أنّ محاولة رجال الكونجرس لإعادة التصويت على القانون المسمى «جاستا» يوم الأربعاء 28 سبتمبر 2016، أظهرت بوضوح رغبة الكثير من رجال الكونجرس في ابتزاز الحكومة السعودية ورجال الأعمال السعوديين برفع قضايا قانونية جديدة ضدهم، في محاولة للحصول على تعويضات غير حقيقية، لأعمال قام بها مجرمون خارجون عن القانون لا يمثّلون المملكة وشعبها، على رغم حملهم لجنسيات وهويّات سعودية.
والحقيقة أنّ هذا القانون سيفتح الباب على مصراعيه أمام المحامين في الولايات المتحدة لرفع قضايا لابتزاز المملكة التي تودع جزءاً كبيراً من احتياطاتها النقدية في سندات حكومية أميركية، وفي حسابات مصرفية بالدولار لدى بعض البنوك الأميركية الكبرى.
والمملكة التي قبل عامين، كان لديها أكثر من 550 مليار دولار في سندات وحسابات بنكية في الولايات المتحدة، نجحت خلال عام واحد في تقليص هذه الودائع إلى ما دون 100 مليار دولار. ولا أعلم، بصفتي محللاً سياسياً، هل كانت مثل هذه الخطوات مرتبطة بمسار القانون الذي كان يشق طريقه في لجان الكونجرس المختلفة، أم لأن معظم التجارة النفطية للمملكة باتت اليوم مرتبطة بالأسواق الآسيوية في اليابان والصين والهند وغيرها، وبالتالي كان من الطبيعي أن تبقى بعض الأرصدة على مبيعات النفط الموجهة إلى تلك الدول في بنوك يابانية، أو أوروبية، أو صينية.
كل ذلك يعني أنّ علاقات المملكة مع الولايات المتحدة في المجال المالي والنقدي ينبغي لها في المستقبل ألا تكون حبيسة العائد السنوي على الاستثمار الذي كان يحكمها في الماضي، بل يجب كذلك أن تأخذ بعين الاعتبار الجوانب السياسية والقانونية في مسألة توظيف هذه الودائع.
ويقترح بعض الساسة الأميركيين أن يكون هناك صندوق دولي لتعويض ضحايا الإرهاب، تكون المملكة ودول الخليج من أوائل المتبرعين أو المنتسبين إليه. وعلى رغم أنّ هذه الفكرة غير واضحة، إلا أنّ الولايات المتحدة وغيرها من الدول الأوروبية يجب كذلك أن تكون عضواً مساهماً فيه، وأن يكون من أوائل المستفيدين منه ضحايا الإرهاب في العراق وسوريا والمملكة وبعض الدول الأوروبية، وليس حكراً فقط على ضحايا أحداث الحادي عشر من سبتمبر. لأنّ حصر المساهمة في مثل هذا الصندوق في الدول العربية فقط، تعني أنها مسؤولة عن مثل تلك الأعمال الإجرامية التي قام بها منسوبو «القاعدة»، وليست المملكة مسؤولة عنهم وعن أعمالهم الشنيعة.
والنقطة الأخرى التي يجب النظر فيها، هي أنّ مثل هذا القانون الجديد، الذي يجعل الدول الأجنبية مسؤولة عن أعمال إرهابية في الولايات المتحدة، يوسّع من قاعدة الاتهام من الأفراد إلى الدول التي ينتسبون إليها. ومع أني لست بخبير قانوني إلا أنّ ذلك سيجعل أي شخص في أي بلد من العالم يرتكب جرماً ضد القانون، غير مسؤول بشخصه عن ذلك، بل يضع اللوم على حكومته، وهذا يخلق إشكالية عميقة في القانون الدولي، وفي القوانين المحليّة.
والنقطة الأخرى التي ينبغي النظر إليها أن مثل هذا القانون يهزّ ثقة المستثمرين والدول على اعتبار الدولار والبنوك الأميركية ملاذ آمن للودائع المصرفية. وربما يهزّ ذلك في المستقبل ثقة الدول والأفراد في العملة الأميركية.
ولعلّه ليس خافياً على أي دارس للتاريخ الاقتصادي، كيف اهتزت الثقة بالجنيه الإسترليني، والذي كان يُعدّ بمثابة «قاعدة الذهب» في النظام المصرفي الدولي، وذلك بعد أن جمّد البنك المركزي البريطاني (بنك إنجلترا) في أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات، ودائع بعض الدول الحليفة لبريطانيا، لدعم احتياطاته النقدية حينها.
ولعلّ مثل هذه الالتفاتة التاريخية تجعلنا ندرك أنّ الثقة هي الأساس الذي تُبنى عليه العلاقات المالية الدولية، وكذلك النظام النقدي العالمي، والقاعدة التي يستند عليها، ومثل هذه الثقة باتت مهزوزة في الوقت الحاضر.
التعليقات